للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْغَرْبِيِ

[الْقَصَصِ: ٤٤] وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَقُولَ: نَحِسٍ لَيْسَ بِنَعْتٍ، بَلْ هُوَ اسْمُ مَعْنًى أَوْ مَصْدَرٌ، فَيَكُونُ كَقَوْلِهِمْ يَوْمُ بَرْدٍ وَحَرٍّ، وَهُوَ أَقْرَبُ وَأَصَحُّ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: مَا مَعْنَى مُسْتَمِرٍّ؟ نَقُولُ فِيهِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: مُمْتَدٌّ ثَابِتٌ مُدَّةً مَدِيدَةً مِنِ اسْتَمَرَّ الْأَمْرُ إِذَا دَامَ، وَهَذَا كَقَوْلِهِ تعالى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ [فصلت: ١٦] لِأَنَّ الْجَمْعَ يُفِيدُ مَعْنَى الِاسْتِمْرَارِ وَالِامْتِدَادِ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: حُسُوماً [الْحَاقَّةِ: ٧] الثَّانِي: شَدِيدٌ مِنَ الْمَرَّةِ كَمَا قُلْنَا مِنْ قَبْلُ فِي قَوْلِهِ: سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ [الْقَمَرِ: ٢] وَهَذَا كَقَوْلِهِمْ أَيَّامُ الشَّدَائِدِ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ (عذاب الخزي) «١» [فصلت: ١٦] فإنه يذيقهم المر المضر من العذاب. ثم قال تعالى:

[[سورة القمر (٥٤) : آية ٢٠]]

تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (٢٠)

فِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَنْزِعُ النَّاسَ وَصْفٌ أَوْ حَالٌ؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ الْأَمْرَيْنِ جَمِيعًا، إِذْ يَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أَرْسَلَ رِيحًا صَرْصَرًا نَازِعَةً لِلنَّاسِ، وَيَصِحُّ أَنْ يُقَالَ: أُرْسِلَ الرِّيحُ نَازِعَةً، فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يُمْكِنُ جَعْلُهَا حَالًا، وَذُو الْحَالِ نَكِرَةٌ؟ نَقُولُ: الْأَمْرُ هُنَا أَهْوَنُ مِنْهُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ [الْقَمَرِ: ٤] فَإِنَّهُ نَكِرَةٌ، وَأَجَابُوا عَنْهُ بِأَنَّ (مَا) مَوْصُوفَةٌ فَتَخَصَّصَتْ فَحَسُنَ جَعْلُهَا ذَاتَ الْحَالِ، فَكَذَلِكَ نَقُولُ هَاهُنَا الرِّيحُ مَوْصُوفَةٌ بِالصَّرْصَرِ، وَالتَّنْكِيرُ فِيهِ لِلتَّعْظِيمِ، وَإِلَّا فَهِيَ ثَلَاثَةٌ فَلَا يَبْعُدُ جَعْلُهَا ذَاتَ حَالٍ، وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّهُ كَلَامٌ مُسْتَأْنِفٌ عَلَى فِعْلٍ وَفَاعِلٍ، كَمَا تَقُولُ: جَاءَ زَيْدٌ جَذَبَنِي، وَتَقْدِيرُهُ جَاءَ فَجَذَبَنِي، كَذَلِكَ هَاهُنَا قَالَ: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً [القمر: ١٩] / فَأَصْبَحَتْ تَنْزِعُ النَّاسَ وَيَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى [الْحَاقَّةِ: ٧] فَالتَّاءُ فِي قَوْلِهِ: تَنْزِعُ النَّاسَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: صَرْعى وَقَوْلُهُ تَعَالَى:

كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ فِيهِ وُجُوهٌ أَحَدُهَا: نَزَعَتْهُمْ فَصَرَعَتْهُمْ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ كَمَا قَالَ: صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ [الْحَاقَّةِ: ٧] ثَانِيهَا: نَزَعَتْهُمْ فَهُمْ بَعْدَ النَّزْعِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ وَهَذَا أَقْرَبُ، لِأَنَّ الِانْقِعَارَ قَبْلَ الْوُقُوعِ، فَكَأَنَّ الرِّيحَ تَنْزِعُ [الْوَاحِدَ] وتقعر [هـ] فَيَنْقَعِرُ فَيَقَعُ فَيَكُونُ صَرِيعًا، فَيَخْلُو الْمَوْضِعُ عَنْهُ فَيَخْوَى، وَقَوْلُهُ فِي الْحَاقَّةِ: فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ إِشَارَةٌ إِلَى حَالَةٍ بَعْدَ الِانْقِعَارِ الَّذِي هُوَ بَعْدَ النَّزْعِ، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْحِكَايَةَ هَاهُنَا مُخْتَصَرَةً حَيْثُ لَمْ يُشِرْ إِلَى صَرْعِهِمْ وَخُلُوِّ مَنَازِلِهِمْ عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ، فَإِنَّ حَالَ الِانْقِعَارِ لَا يَحْصُلُ الْخُلُوُّ التَّامُّ إِذْ هُوَ مِثْلُ الشُّرُوعَ فِي الْخُرُوجِ وَالْأَخْذِ فِيهِ ثَالِثُهَا: تَنْزِعُهُمْ نَزْعًا بِعُنْفٍ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ تَقْعَرُهُمْ فَيَنْقَعِرُوا إِشَارَةً إِلَى قُوَّتِهِمْ وَثَبَاتِهِمْ عَلَى الْأَرْضِ، وَفِي الْمَعْنَى وُجُوهٌ أَحَدُهَا: أَنَّهُ ذَكَرَ ذَلِكَ إِشَارَةً إِلَى عَظَمَةِ أَجْسَادِهِمْ وَطُولِ أَقْدَادَهِمْ ثَانِيهَا: ذَكَرَهُ إِشَارَةً إِلَى ثَبَاتِهِمْ فِي الْأَرْضِ، فَكَأَنَّهُمْ كَانُوا يُعْمِلُونَ أَرْجُلَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَيَقْصِدُونَ الْمَنْعَ بِهِ عَلَى الرِّيحِ وَثَالِثُهَا: ذَكَرَهُ إِشَارَةً إِلَى يُبْسِهُمْ وَجَفَافِهِمْ بِالرِّيحِ، فَكَانَتْ تَقْتُلُهُمْ وَتَحْرِقُهُمْ بِبَرْدِهَا الْمُفْرِطِ فَيَقَعُونَ كَأَنَّهُمْ أَخْشَابٌ يَابِسَةٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ هَاهُنَا: مُنْقَعِرٍ فَذَكَّرَ النَّخْلَ، وَقَالَ فِي الْحَاقَّةِ: كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ فَأَنَّثَهَا، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: فِي تِلْكَ السُّورَةِ كَانَتْ أَوَاخِرُ الْآيَاتِ تَقْتَضِي ذَلِكَ لِقَوْلِهِ: مُسْتَمِرٍّ ومُنْهَمِرٍ ومُنْتَشِرٌ [الْقَمَرِ:

١٩، ١١، ٧] وَهُوَ جَوَابٌ حَسَنٌ، فَإِنَّ الْكَلَامَ كَمَا يُزَيَّنُ بِحُسْنِ الْمَعْنَى يُزَيَّنُ بِحُسْنِ اللَّفْظِ، وَيُمْكِنُ أن يقال:


(١) ما بين القوسين في المطبوعة (بعض الذي) وهو خطأ.

<<  <  ج: ص:  >  >>