فَقَالَ: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ
وَفِيهِ مَبَاحِثُ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: (أَمْ) كَلِمَةٌ وُضِعَتْ لِلِاسْتِفْهَامِ عَنْ شَيْءٍ حَالَ كَوْنِهِ مَعْطُوفًا عَلَى شَيْءٍ آخَرَ، سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ الْمَعْطُوفُ مَذْكُورًا أَوْ مُضْمَرًا، والتقدير هاهنا: أَفَيَعْلَمُ الْمُشْرِكُونَ هَذَا، أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا نَتَوَلَّاهُمْ كَمَا نَتَوَلَّى الْمُتَّقِينَ؟.
الْبَحْثُ الثَّانِي: الِاجْتِرَاحُ: الِاكْتِسَابُ، وَمِنْهُ الْجَوَارِحُ، وَفُلَانٌ جَارِحَةُ أَهْلِهِ، أَيْ كَاسِبُهُمْ، قَالَ تَعَالَى:
وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ [الْأَنْعَامِ: ٦٠] .
الْبَحْثُ الثَّالِثُ:
قَالَ الْكَلْبِيُّ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَلِيٍّ وَحَمْزَةَ وَأَبِي عُبَيْدَةَ بْنِ الْجَرَّاحِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ،
وَفِي ثَلَاثَةٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ: عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، قَالُوا لِلْمُؤْمِنِينَ: وَاللَّهِ مَا أَنْتُمْ عَلَى شَيْءٍ، وَلَوْ كَانَ مَا تَقُولُونَ حَقًّا لَكَانَ حَالُنَا أَفْضَلَ مِنْ حَالِكُمْ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَنَّا أَفْضَلُ حَالًا مِنْكُمْ فِي الدُّنْيَا، فَأَنْكَرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ هَذَا الْكَلَامَ، وَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ حَالُ الْمُؤْمِنِ الْمُطِيعِ مُسَاوِيًا لِحَالِ الْكَافِرِ الْعَاصِي فِي دَرَجَاتِ الثَّوَابِ، وَمَنَازِلِ السَّعَادَاتِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ لَفْظَ حَسِبَ
يَسْتَدْعِي مَفْعُولَيْنِ أَحَدُهُمَا: الضَّمِيرُ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
وَالثَّانِي:
الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَالْمَعْنَى أَحَسِبَ هَؤُلَاءِ الْمُجْتَرِحِينَ أَنْ نَجْعَلَهُمْ أَمْثَالَ الَّذِينَ آمَنُوا؟ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لَا يَسْتَوُونَ [السَّجْدَةِ: ١٨] وَقَوْلُهُ إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ [غَافِرٍ: ٥١، ٥٢] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ [الْقَلَمِ: ٣٥، ٣٦] وَقَوْلُهُ أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ [ص: ٢٨] .
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: سَواءً مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ سَواءً
بِالنَّصْبِ، وَالْبَاقُونَ بِالرَّفْعِ، وَاخْتِيَارُ أَبِي عُبَيْدٍ النَّصْبُ، أَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالرَّفْعِ، فَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
مُبْتَدَأٌ وَالْجُمْلَةُ فِي حُكْمِ الْمُفْرَدِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الْبَدَلِ مِنَ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِقَوْلِهِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ
وَهُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِينَ آمَنُوا
وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ: ظَنَنْتُ زَيْدًا أَبُوهُ مُنْطَلِقٌ، وَأَمَّا وَجْهُ الْقِرَاءَةِ بِالنَّصْبِ/ فَقَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : أَجْرَى سَوَاءً مُجْرَى مُسْتَوِيًا، فَارْتَفَعَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ عَلَى الْفَاعِلِيَّةِ وَكَانَ مُفْرَدًا غَيْرَ جُمْلَةٍ، وَمَنْ قَرَأَ وَمَماتُهُمْ
بِالنَّصْبِ جَعَلَ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
ظَرْفَيْنِ كَمَقْدَمِ الْحَاجِّ، وَخُفُوقِ النَّجْمِ، أَيْ سَوَاءً فِي مَحْيَاهُمْ وَفِي مَمَاتِهِمْ، قَالَ أَبُو عَلِيٍّ مَنْ نَصَبَ سَوَاءً جَعَلَ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتَ بَدَلًا مِنَ الضَّمِيرِ الْمَنْصُوبِ فِي نَجْعَلَهُمْ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ أَنْ نَجْعَلَ مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتَهُمْ سَوَاءً، قَالَ وَيَجُوزُ أَنْ نَجْعَلَهُ حَالًا وَيَكُونُ الْمَفْعُولُ الثَّانِي هُوَ الْكَافُ فِي قَوْلِهِ كَالَّذِينَ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اخْتَلَفُوا فِي الْمُرَادِ بِقَوْلِهِ مَحْياهُمْ وَمَماتُهُمْ
قَالَ مُجَاهِدٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يَعْنِي أَحَسِبُوا أَنَّ حَيَاتَهُمْ وَمَمَاتَهُمْ كَحَيَاةِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَوْتِهِمْ، كَلَّا فَإِنَّهُمْ يَعِيشُونَ كَافِرِينَ وَيَمُوتُونَ كَافِرِينَ وَالْمُؤْمِنُونَ يَعِيشُونَ مُؤْمِنِينَ وَيَمُوتُونَ مُؤْمِنِينَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُؤْمِنَ مَا دَامَ يَكُونُ فِي الدُّنْيَا فَإِنَّهُ يَكُونُ وَلِيُّهُ هُوَ اللَّهُ وَأَنْصَارُهُ الْمُؤْمِنُونَ وَحُجَّةُ اللَّهِ مَعَهُ، وَالْكَافِرُ بِالضِّدِّ مِنْهُ، كَمَا ذَكَرَهُ فِي قَوْلِهِ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَعِنْدَ الْقُرْبِ إِلَى