الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهِيَ كَيْفَ كَانَتْ فَانِيَةً وَإِنَّمَا مَطْلَبُنَا سَعَادَةُ الْآخِرَةِ وَهِيَ بَاقِيَةٌ، وَالْعَقْلُ يَقْتَضِي تَحَمُّلَ الضَّرَرِ الْفَانِي الْمُتَوَصَّلِ بِهِ إِلَى السَّعَادَةِ الْبَاقِيَةِ ثُمَّ قَالُوا: إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَلَمَّا كَانَ أَقْرَبُ خَطَايَاهُمْ عَهْدًا مَا أَظْهَرُوهُ مِنَ السِّحْرِ، قَالُوا: وَما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَذَكَرُوا فِي ذَلِكَ الْإِكْرَاهِ وُجُوهًا. أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُلُوكَ فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ كَانُوا يَأْخُذُونَ الْبَعْضَ مِنْ رَعِيَّتِهِمْ وَيُكَلِّفُونَهُمْ تَعَلُّمَ السِّحْرِ فَإِذَا شَاخَ بَعَثُوا إِلَيْهِ أَحْدَاثًا لِيُعَلِّمَهُمْ لِيَكُونَ فِي كُلِّ وَقْتٍ مَنْ يُحْسِنُهُ فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ لِأَجْلِ ذَلِكَ أَيْ كُنَّا فِي التَّعَلُّمِ أَوَّلًا وَالتَّعْلِيمِ ثَانِيًا مُكْرَهِينَ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا: أَنَّ رُؤَسَاءَ السَّحَرَةِ كَانُوا اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ، اثْنَانِ مِنَ الْقِبْطِ، وَالْبَاقِي مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ فَقَالُوا لِفِرْعَوْنَ: أَرِنَا مُوسَى نَائِمًا فَرَأَوْهُ فَوَجَدُوهُ تَحْرُسُهُ عَصَاهُ فَقَالُوا: مَا هَذَا بِسَاحِرٍ، السَّاحِرُ إِذَا نَامَ بَطَلَ سِحْرُهُ فَأَبَى إِلَّا أَنْ يُعَارِضُوهُ. وَثَالِثُهَا: قَالَ الْحَسَنُ: إِنَّ السَّحَرَةَ حُشِرُوا مِنَ الْمَدَائِنِ لِيُعَارِضُوا مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَأُحْضِرُوا بِالْحَشْرِ وَكَانُوا مُكْرَهِينَ فِي الْحُضُورِ وَرُبَّمَا كَانُوا مُكْرَهِينَ أَيْضًا فِي إِظْهَارِ السِّحْرِ. وَرَابِعُهَا: قَالَ عَمْرُو بْنُ عُبَيْدٍ:
دَعْوَةُ السُّلْطَانِ إِكْرَاهٌ وَهَذَا ضَعِيفٌ لِأَنَّ دَعْوَةَ السُّلْطَانِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَهَا خَوْفٌ لَمْ تَكُنْ إِكْرَاهًا، ثُمَّ قَالُوا: وَاللَّهُ خَيْرٌ ثَوَابًا لِمَنْ أَطَاعَهُ. وَأَبْقى عِقَابًا لِمَنْ عَصَاهُ، وَهَذَا جَوَابٌ لِقَوْلِهِ: وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى [طه: ٧١] . قَالَ الْحَسَنُ: سُبْحَانَ اللَّه الْقَوْمُ كُفَّارٌ وَهُمْ أَشَدُّ الْكَافِرِينَ كُفْرًا ثَبَتَ فِي قُلُوبِهِمِ الْإِيمَانُ فِي طَرْفَةِ عَيْنٍ فَلَمْ يَتَعَاظَمْ عِنْدَهُمْ أَنْ قَالُوا: فَاقْضِ مَا أَنْتَ قاضٍ فِي ذَاتِ اللَّه تَعَالَى واللَّه إِنَّ أَحَدَكُمُ الْيَوْمَ لَيَصْحَبُ الْقُرْآنَ سِتِّينَ عَامًا ثُمَّ إِنَّهُ يَبِيعُ دِينَهُ بِثَمَنٍ حَقِيرٍ، ثُمَّ خَتَمُوا هَذَا الْكَلَامَ بِشَرْحِ أَحْوَالِ الْمُؤْمِنِينَ وَأَحْوَالِ الْمُجْرِمِينَ فِي عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ، فَقَالُوا فِي الْمُجْرِمِينَ: / إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْهَاءُ فِي قَوْلِهِ: إِنَّهُ ضَمِيرُ الشَّأْنِ يَعْنِي أَنَّ الْأَمْرَ وَالشَّأْنَ كَذَا وَكَذَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اسْتَدَلَّتِ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي الْقَطْعِ عَلَى وَعِيدِ أَصْحَابِ الْكَبَائِرِ قَالُوا: صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ وَكُلُّ مُجْرِمٍ فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لِقَوْلِهِ: إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً وَكَلِمَةُ مَنْ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ تُفِيدُ الْعُمُومَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ يَجُوزُ اسْتِثْنَاءُ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا وَالِاسْتِثْنَاءُ يُخْرِجُ مِنَ الْكَلَامِ مَا لَوْلَاهُ لَدَخَلَ، وَاعْتَرَضَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَصْحَابِنَا عَلَى هَذَا الْكَلَامِ، فَقَالَ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُجْرِمٌ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّهُ تَعَالَى جَعَلَ الْمُجْرِمَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِ فَإِنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ وَقَالَ: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ [الْمُطَفِّفِينَ: ٢٩] وَأَيْضًا فَإِنَّهُ قَالَ: فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيها وَلا يَحْيى وَالْمُؤْمِنُ صَاحِبُ الْكَبِيرَةِ وَإِنْ عُذِّبَ بِالنَّارِ لَا يَكُونُ بِهَذَا الْوَصْفِ،
وَفِي الْخَبَرِ الصَّحِيحِ: «يَخْرُجُ مِنَ النَّارِ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنَ الْإِيمَانِ» .
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الِاعْتِرَاضَاتِ ضَعِيفَةٌ، أَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّه تَعَالَى جَعَلَ الْمُجْرِمَ فِي مُقَابَلَةِ الْمُؤْمِنِ فَهَذَا مُسَلَّمٌ لَكِنَّ هَذَا إِنَّمَا يَنْفَعُ لَوْ ثَبَتَ أَنَّ صَاحِبَ الْكَبِيرَةِ مُؤْمِنٌ، وَمَذْهَبُ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِمُؤْمِنٍ فَهَذَا الْمُعْتَرِضُ كَأَنَّهُ بَنَى هَذَا الِاعْتِرَاضَ عَلَى مَذْهَبِ نَفْسِهِ وَذَلِكَ سَاقِطٌ، قَوْلُهُ ثَانِيًا: إِنَّهُ لَا يَلِيقُ بِصَاحِبِ الْكَبِيرَةِ أَنْ يُقَالَ فِي حَقِّهِ: إِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى، قُلْنَا: لَا نُسَلِّمُ فَإِنَّ عَذَابَ جَهَنَّمَ فِي غَايَةِ الشِّدَّةِ قَالَ تَعَالَى:
رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ [آلِ عِمْرَانَ: ١٩٢] وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَيُقَالُ: «الْقُرْآنُ مُتَوَاتِرٌ فَلَا يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ» . وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: ثَبَتَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّهُ يَجُوزُ تَخْصِيصُ الْقُرْآنِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ وَلِلْخَصْمِ أَنْ يُجِيبَ فَيَقُولُ ذَلِكَ يُفِيدُ الظَّنَّ فَيَجُوزُ الرُّجُوعُ إِلَيْهِ فِي الْعَمَلِيَّاتِ، وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ لَيْسَتْ مِنَ الْعَمَلِيَّاتِ بَلْ مِنَ الاعتقادات،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute