للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وَاعْلَمْ أَنَّ أَحْوَالَ هَذَا الْعَالَمِ مَحْصُورَةٌ فِي أُمُورٍ أَرْبَعَةٍ: الْآثَارُ الْعُلْوِيَّةُ وَالْمَعَادِنُ وَالنَّبَاتُ وَالْحَيَوَانُ وَمِنْ جُمْلَةِ الْآثَارِ الْعُلْوِيَّةِ الرِّيَاحُ وَالسَّحَابُ وَالْأَمْطَارُ وَيَتَرَتَّبُ عَلَى نُزُولِ الْأَمْطَارِ أَحْوَالُ النَّبَاتِ وَذَلِكَ هُوَ الْمَذْكُورُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي تَقْرِيرِ النَّظْمِ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الدَّلَالَةَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى عَلَى وُجُودِ الْإِلَهِ الْقَادِرِ الْعَالِمِ الْحَكِيمِ الرَّحِيمِ أَقَامَ الدَّلَالَةَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ لِيَحْصُلَ بِمَعْرِفَةِ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ كُلُّ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ فِي مَعْرِفَةِ الْمَبْدَأِ وَالْمَعَادِ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ الرِّيحَ عَلَى لَفْظِ الْوَاحِدِ وَالْبَاقُونَ الرِّياحَ عَلَى لَفْظِ الْجَمْعِ فَمَنْ قَرَأَ الرِّيَاحَ بِالْجَمْعِ حَسُنَ وَصْفُهَا بِقَوْلِهِ: بُشْراً فَإِنَّهُ وَصْفُ الْجَمْعِ بِالْجَمْعِ وَمَنْ قَرَأَ الرِّيحَ وَاحِدَةً قَرَأَ بُشُرًا جَمْعًا لِأَنَّهُ أَرَادَ بِالرِّيحِ الْكَثْرَةَ كَقَوْلِهِمْ كَثِيرُ الدِّرْهَمِ وَالدِّينَارِ وَالشَّاةِ وَالْبَعِيرِ وَكَقَوْلِهِ:

إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ [الْعَصْرِ: ٢] ثُمَّ قَالَ: إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا [الْعَصْرِ: ٣] فَلَمَّا كَانَ الْمُرَادُ بالريح الجمع وصفها بالجمع واما قوله: نَشْراً فَفِيهِ قِرَاءَاتٌ: إِحْدَاهَا: قِرَاءَةُ الْأَكْثَرِينَ نَشْراً بِضَمِّ النُّونِ وَالشِّينِ وَهُوَ جَمْعُ نَشُورٍ مِثْلُ رُسُلٍ وَرَسُولٍ وَالنَّشُورُ بِمَعْنَى الْمُنْشَرِ كَالرَّكُوبِ بِمَعْنَى الْمَرْكُوبِ فَكَانَ الْمَعْنَى رِيَاحٌ مُنَشَّرَةٌ أَيْ مُفَرَّقَةٌ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ وَالنَّشْرُ التَّفْرِيقُ، وَمِنْهُ نَشْرُ الثَّوْبِ، وَنَشْرُ الْخَشَبَةِ بِالْمِنْشَارِ. وَقَالَ الْفَرَّاءُ: النَّشْرُ مِنَ الرِّيَاحِ الطَّيِّبَةُ اللَّيِّنَةُ الَّتِي تَنْشُرُ السَّحَابَ وَاحِدُهَا نُشُورٌ وَأَصْلُهُ مِنَ النَّشْرِ وَهُوَ الرَّائِحَةُ الطَّيِّبَةُ وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ وَنَشْرُ الْعِطْرِ.

وَالْقِرَاءَةُ الثَّانِيَةُ: قَرَأَ ابْنُ عَامِرٍ نَشْراً بِضَمِّ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ فَخَفَّفَ الْعَيْنَ كَمَا يُقَالُ كُتْبٌ وَرُسْلٌ.

وَالْقِرَاءَةُ الثَّالِثَةُ: قَرَأَ حَمْزَةُ نَشْراً بِفَتْحِ النُّونِ وَإِسْكَانِ الشِّينِ وَالنَّشْرُ مَصْدَرُ نَشَرْتُ الثَّوْبَ/ ضد طويته ويراد بالمصدر هاهنا الْمَفْعُولُ وَالرِّيَاحُ كَأَنَّهَا كَانَتْ مَطْوِيَّةً فَأَرْسَلَهَا اللَّهُ تَعَالَى مَنْشُورَةً بَعْدَ انْطِوَائِهَا فَقَوْلُهُ:

نَشْراً مَصْدَرٌ هُوَ حَالٌ مِنَ الرِّيَاحِ وَالتَّقْدِيرُ: أَرْسَلَ الرِّيَاحَ مُنْشِرَاتٍ وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ النَّشْرُ هُنَا بِمَعْنَى الْحَيَاةِ مِنْ قَوْلِهِمْ أَنْشَرَ اللَّهُ الْمَيِّتَ فَنُشِرَ. قَالَ الْأَعْشَى:

يَا عَجَبًا لِلْمَيِّتِ النَّاشِرِ.

فَإِذَا حَمَلْتَهُ عَلَى ذَلِكَ وَهُوَ الْوَجْهُ كَانَ الْمَصْدَرُ مُرَادًا بِهِ الْفَاعِلُ كَمَا تَقُولُ: أَتَانِي رَكْضًا أَيْ رَاكِضًا وَيَجُوزُ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ: إِنَّ أَرْسَلَ وَنَشَرَ مُتَقَارِبَانِ فَكَأَنَّهُ قِيلَ: وَهُوَ الَّذِي يَنْشُرُ الرِّيَاحَ نَشْرًا.

وَالْقِرَاءَةُ الرَّابِعَةُ: حَكَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» عَنْ مَسْرُوقٍ نَشْراً بِمَعْنَى مَنْشُورَاتٍ فَعْلٍ بِمَعْنَى مَفْعُولٍ كَنَقْضٍ وَحَسْبٍ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: ضَمَّ نَشْرَهُ.

وَالْقِرَاءَةُ الْخَامِسَةُ: قِرَاءَةُ عَاصِمٍ بُشْراً بالباء المنقطة بالنقطة الْوَاحِدَةِ مِنْ تَحْتُ جَمَعَ بَشِيرًا عَلَى بُشْرٍ من قوله تعالى: يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ أَيْ تُبَشِّرُ بِالْمَطَرِ وَالرَّحْمَةِ، وَرَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» بُشْراً بضم الشين وتخفيفه وبشرا بِفَتْحِ الْبَاءِ وَسُكُونِ الشِّينِ مَصْدَرٌ مِنْ بَشَرَهُ بِمَعْنَى بَشَّرَهُ أَيْ بَاشِرَاتٍ وَبُشْرَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: علم أَنَّ قَوْلَهُ: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلُهُ: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ

<<  <  ج: ص:  >  >>