أَجَابَ الْقَاضِي عَنْهُ: بِأَنَّهُ تَعَالَى مَا وَصَفَهُمْ بِالشَّكِّ فِيمَا يُبْصِرُونَ، وَإِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ، وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ يُقْدِمَ الْإِنْسَانُ عَلَى الْكَذِبِ عَلَى سَبِيلِ الْعِنَادِ وَالْمُكَابَرَةِ، ثُمَّ سَأَلَ نَفْسَهُ وَقَالَ: أَفَيَصِحُّ مِنَ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ أَنْ يُظْهِرُوا الشَّكَّ فِي الْمُشَاهَدَاتِ. وَأَجَابَ بِأَنَّهُ يَصِحُّ ذَلِكَ إِذَا جَمَعَهُمْ عَلَيْهِ غَرَضٌ صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ مِنْ مُوَاطَأَةٍ عَلَى دَفْعِ حُجَّةٍ أَوْ غَلَبَةِ خَصْمٍ، وَأَيْضًا فَهَذِهِ الْحِكَايَةُ إِنَّمَا وَقَعَتْ عَنْ قَوْمٍ مَخْصُوصِينَ، سَأَلُوا الرَّسُولَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِنْزَالَ الْمَلَائِكَةِ، وَهَذَا السُّؤَالُ مَا كَانَ إِلَّا مِنْ رُؤَسَاءِ الْقَوْمِ، وَكَانُوا قَلِيلِي الْعَدَدِ، وَإِقْدَامُ الْعَدَدِ الْقَلِيلِ عَلَى مَا يَجْرِي مَجْرَى الْمُكَابَرَةِ جَائِزٌ.
المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يُقَالُ: ظَلَّ فُلَانٌ نَهَارَهُ يَفْعَلُ كَذَا إِذَا فَعَلَهُ بِالنَّهَارِ وَلَا تَقُولُ الْعَرَبُ ظَلَّ يَظَلُّ إِلَّا لِكُلِّ عَمَلٍ عُمِلَ بِالنَّهَارِ، كَمَا لَا يَقُولُونَ بَاتَ يَبِيتُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، وَالْمَصْدَرُ الظُّلُولُ، وَقَوْلُهُ: فِيهِ يَعْرُجُونَ يُقَالُ: عَرَجَ يَعْرُجُ عُرُوجًا، وَمِنْهُ الْمَعَارِجُ، وَهِيَ الْمَصَاعِدُ الَّتِي يُصْعَدُ فِيهَا، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّ قَوْلَهُ: فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ مِنْ صِفَةِ الْمُشْرِكِينَ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا: لَوْ ظَلَّ الْمُشْرِكُونَ يَصْعَدُونَ فِي تِلْكَ الْمَعَارِجِ وَيَنْظُرُونَ إِلَى مَلَكُوتِ اللَّهِ تَعَالَى وَقُدْرَتِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَإِلَى عِبَادَةِ الْمَلَائِكَةِ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ لَشَكُّوا فِي تِلْكَ الرُّؤْيَةِ وَبَقُوا مُصِرِّينَ عَلَى كُفْرِهِمْ وَجَهْلِهِمْ كَمَا جَحَدُوا سَائِرَ الْمُعْجِزَاتِ مِنَ انْشِقَاقِ الْقَمَرِ وَمَا خُصَّ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْقُرْآنِ الْمُعْجِزِ الَّذِي لَا يَسْتَطِيعُ الْجِنُّ وَالْإِنْسُ أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِهِ.
الْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ هذه الْعُرُوجَ لِلْمَلَائِكَةِ، وَالْمَعْنَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ جَعَلَ هَؤُلَاءِ الْكُفَّارَ بِحَيْثُ يَرَوْا أَبْوَابًا مِنَ السَّمَاءِ مَفْتُوحَةً وَتَصْعَدُ مِنْهَا الْمَلَائِكَةُ وَتَنْزِلُ لَصَرَفُوا ذَلِكَ عَنْ وَجْهِهِ، وَلَقَالُوا: إِنَّ السَّحَرَةَ سَحَرُونَا وَجَعَلُونَا بِحَيْثُ نُشَاهِدُ هَذِهِ الْأَبَاطِيلَ الَّتِي لَا حَقِيقَةَ لَهَا وَقَوْلُهُ: لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا فِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
المسألة الْأُولَى: قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ سُكِّرَتْ بِالتَّخْفِيفِ، وَالْبَاقُونَ مُشَدَّدَةَ الْكَافِ قَالَ الْوَاحِدِيُّ سُكِرَتْ غُشِيَتْ وَسُدِّدَتْ بِالسِّحْرِ هَذَا قَوْلُ أَهْلِ اللُّغَةِ قَالُوا: وَأَصْلُهُ مِنَ السَكْرِ وَهُوَ سَدُّ الشِّقِّ لِئَلَّا يَنْفَجِرَ الْمَاءُ، فَكَأَنَّ هَذِهِ الْأَبْصَارَ مُنِعَتْ مِنَ النَّظَرِ كَمَا يَمْنَعُ السَكْرُ الْمَاءَ مِنَ الْجَرْيِ، وَالتَّشْدِيدُ يُوجِبُ زِيَادَةً وَتَكْثِيرًا وَقَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: هُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ سُكْرِ الشَّرَابِ يَعْنِي أَنَّ الْأَبْصَارَ حَارَتْ وَوَقَعَ بِهَا مِنْ فَسَادِ النَّظَرِ مِثْلُ مَا يَقَعُ بِالرَّجُلِ السَّكْرَانِ مِنْ تَغَيُّرِ الْعَقْلِ فَإِذَا كَانَ هَذَا مَعْنَى التَّخْفِيفِ فَسُكِّرَتْ بِالتَّشْدِيدِ يُرَادُ بِهِ وُقُوعُ هَذَا الْأَمْرِ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى، وَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ:
سُكِّرَتْ أَبْصارُنا أَيْ غُشِيَتْ أَبْصَارُنَا فَوَجَبَ سُكُونُهَا وَبُطْلَانُهَا، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ أَصْلُهُ مِنَ السُّكُونِ يُقَالُ:
سَكَرَتِ الرِّيحُ سُكْرًا إِذَا سَكَنَتْ وَسَكَرَ الْحَرُّ يَسْكُرُ وَلَيْلَةٌ سَاكِرَةٌ لَا رِيحَ فِيهَا وَقَالَ أَوْسٌ:
جَذَلْتُ عَلَى لَيْلَةٍ سَاهِرَةٍ ... فَلَيْسَتْ بِطَلْقٍ وَلَا سَاكِرَةٍ
وَيُقَالُ: سُكِّرَتْ عَيْنُهُ سُكْرًا إِذَا تَحَيَّرَتْ وَسَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَعَلَى هَذَا مَعْنَى سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا، أَيْ سَكَنَتْ عَنِ النَّظَرِ وَهَذَا الْقَوْلُ اخْتِيَارُ الزَّجَّاجِ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: سُكِّرَتْ صَارَتْ بِحَيْثُ لَا يَنْفُذُ نُورُهَا وَلَا تُدْرِكُ الْأَشْيَاءَ عَلَى حَقَائِقِهَا، وَكَانَ مَعْنَى السَّكْرِ قَطْعَ الشَّيْءِ عَنْ سَنَنِهِ الْجَارِي، فَمِنْ ذَلِكَ تَسْكِيرُ الْمَاءِ وَهُوَ رَدُّهُ عَنْ سُنَنِهِ فِي الْجَرْيَةِ، وَالسُّكْرُ فِي الشَّرَابِ هُوَ أَنْ يَنْقَطِعَ عَمَّا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْمَضَاءِ فِي حَالَ الصَّحْوِ فَلَا يَنْفُذُ رَأْيُهُ عَلَى
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute