لِثِقَلِهَا يَتَعَجَّبُ الْإِنْسَانُ مِنْ وُقُوفِهَا وَعَدَمِ نُزُولِهَا وَكَوْنُ السَّمَاءِ يَتَعَجَّبُ مِنْ عُلُوِّهَا وَثَبَاتِهَا مِنْ غَيْرِ عَمَدٍ، وَهَذَا مِنَ اللَّوَازِمِ، فَإِنَّ الْأَرْضَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَكَانِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ وَالسَّمَاءُ كَذَلِكَ لَا تَخْرُجُ عَنْ مَكَانِهَا الَّذِي هِيَ فِيهِ فَإِنْ قِيلَ إِنَّهَا تَتَحَرَّكُ فِي مَكَانِهَا كَالرَّحَى وَلَكِنِ اتَّفَقَ الْعُقَلَاءُ عَلَى أَنَّهَا فِي مَكَانِهَا لَا تَخْرُجُ عَنْهُ، وَهَذِهِ آيَةٌ ظَاهِرَةٌ لِأَنَّ كَوْنَهُمَا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي هُمَا فِيهِ وَعَلَى الْمَوْضِعِ/ الَّذِي هُمَا عَلَيْهِ مِنَ الْأُمُورِ الْمُمْكِنَةِ، وَكَوْنُهُمَا فِي غَيْرِ ذَلِكَ الْمَوْضِعِ جَائِزٌ، فَكَانَ يُمْكِنُ أَنْ يَخْرُجَا مِنْهُ فَلَمَّا لَمْ يَخْرُجَا كَانَ ذَلِكَ تَرْجِيحًا لِلْجَائِزِ عَلَى غَيْرِهِ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إِلَّا بِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَالْفَلَاسِفَةُ قَالُوا كَوْنُ الْأَرْضِ فِي الْمَكَانِ الَّذِي هِيَ فِيهِ طَبِيعِيٌّ لَهَا لِأَنَّهَا أَثْقَلُ الْأَشْيَاءِ وَالثَّقِيلُ يَطْلُبُ الْمَرْكَزَ وَالْخَفِيفُ يَطْلُبُ الْمُحِيطَ وَالسَّمَاءُ كَوْنُهَا فِي مَكَانِهَا إِنْ كَانَتْ ذَاتَ مَكَانِ فَلَذَاتِهَا فَقِيَامُهُمَا فِيهِمَا بِطَبْعِهِمَا، فَنَقُولُ قَدْ تَقَدَّمَ مِرَارًا أَنَّ الْقَوْلَ بِالطَّبِيعَةِ بَاطِلٌ، وَالَّذِي نَزِيدُهُ هَاهُنَا أَنَّكُمْ وَافَقْتُمُونَا بِأَنَّ مَا جَازَ عَلَى أَحَدِ الْمِثْلَيْنِ جَازَ عَلَى الْمِثْلِ الْآخَرِ، لَكِنَّ مُقَعَّرَ الْفَلَكِ لَا يُخَالِفُ مُحَدَّبَهُ فِي الطَّبْعِ فَيَجُوزُ حُصُولُ مُقَعَّرِهِ فِي مَوْضِعِ مُحَدَّبِهِ، وَذَلِكَ بِالْخُرُوجِ وَالزَّوَالِ فَإِذَنِ الزَّوَالُ عَنِ الْمَكَانِ مُمْكِنٌ لَا سِيَّمَا عَلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَإِنَّهَا مُحَدَّدَةُ الْجِهَاتِ عَلَى مَذْهَبِكُمْ أَيْضًا وَالْأَرْضُ كَانَتْ تَجُوزُ عَلَيْهَا الْحَرَكَةُ الدَّوْرِيَّةُ، كَمَا تَقُولُونَ عَلَى السَّمَاءِ فَعَدَمُهَا وَسُكُونُهَا لَيْسَ إِلَّا بِفَاعِلٍ مُخْتَارٍ وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: ذَكَرَ اللَّهُ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَمْرَيْنِ، أَمَّا مِنَ الْأَنْفُسِ فَقَوْلُهُ: خَلَقَ لَكُمْ اسْتَدَلَّ بِخَلْقِ الزَّوْجَيْنِ وَمِنَ الْآفَاقِ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ فِي قَوْلِهِ: خَلْقُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَمِنْ لَوَازِمَ الْإِنْسَانِ اخْتِلَافُ اللِّسَانِ وَاخْتِلَافُ الْأَلْوَانِ وَمِنْ عَوَارِضِهِ الْمَنَامُ وَالِابْتِغَاءُ وَمِنْ عَوَارِضِ الْآفَاقِ الْبُرُوقُ وَالْأَمْطَارُ وَمِنْ لَوَازِمِهَا قِيَامُ السَّمَاءِ وَقِيَامُ الأرض، لأن الواحد يكفي للإقرار بالحق والثاني: يفيد الاستقرار بالحق، ومن هذا اعتبر شهادة شاهدين فإن قول أحدهما يُفِيدُ الظَّنَّ وَقَوْلُ الْآخَرِ يُفِيدُ تَأْكِيدَهُ وَلِهَذَا قَالَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [الْبَقَرَةِ: ٢٦٠] .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: بِأَمْرِهِ أَيْ بقوله: قوما أو بإرادته قيامها، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْأَمْرَ عِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ مُوَافِقٌ لِلْإِرَادَةِ، وَعِنْدَنَا لَيْسَ كَذَلِكَ وَلَكِنَّ النِّزَاعَ فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِلتَّكْلِيفِ لَا فِي الْأَمْرِ الَّذِي لِلتَّكْوِينِ، فَإِنَّا لَا نُنَازِعُهُمْ فِي أَنَّ قَوْلَهُ: كُنْ وكُونُوا يا نارُ كُونِي مُوَافِقٌ لِلْإِرَادَةِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ هَاهُنَا: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ وَقَالَ قَبْلَهُ: وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ وَلَمْ يَقُلْ أَنْ يُرِيَكُمْ، وَإِنْ قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ إِنَّ أَنْ مُضْمَرَةٌ هُنَاكَ مَعْنَاهُ مِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرِيَكُمْ لِيَصِيرَ كَالْمَصْدَرِ بِأَنْ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقِيَامَ لَمَّا كَانَ غَيْرَ مُتَغَيِّرٍ أَخْرَجَ الْفِعْلَ بِأَنَّ عَنِ الْفِعْلِ الْمُسْتَقْبَلِ وَجَعَلَهُ مَصْدَرًا، لِأَنَّ الْمُسْتَقْبَلَ يُنْبِئُ عَنِ التَّجَدُّدِ، وَفِي الْبَرْقِ لَمَّا كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تَتَجَدَّدُ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْمُسْتَقْبَلِ وَلَمْ يَذْكُرْ مَعَهُ شَيْئًا مِنَ الْحُرُوفِ الْمَصْدَرِيَّةِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: ذَكَرَ سِتَّةَ دَلَائِلَ، وَذَكَرَ فِي أَرْبَعَةٍ مِنْهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ، وَلَمْ يَذْكُرْ فِي الْأَوَّلِ وَهُوَ قَوْلُهُ:
وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ [الروم: ٢٠] وَلَا فِي الْآخَرِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَالْأَرْضُ أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَهُ: وَمِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ [الروم: ٢١] أَيْضًا دَلِيلُ الْأَنْفُسِ، فَخَلْقُ الْأَنْفُسِ وَخَلْقُ الْأَزْوَاجِ مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ، عَلَى مَا بَيَّنَّا، غَيْرَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ مِنْ كُلِّ بَابٍ أَمْرَيْنِ لِلتَّقْرِيرِ بِالتَّكْرِيرِ، فَإِذَا قَالَ: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ كَانَ عَائِدًا إِلَيْهِمَا، وَأَمَّا فِي قِيَامِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ فَنَقُولُ فِي الْآيَاتِ السَّمَاوِيَّةِ ذَكَرَ أَنَّهَا آيَاتٌ لِلْعَالِمِينَ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute