للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ

[الزُّمَرِ: ٦٨] وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَمُوتَ الدَّاخِلُونَ فِي هَذَا/ الِاسْتِثْنَاءِ، وَهَذَا الْعُمُومُ يَقْتَضِي مَوْتَ الْكُلِّ، وَأَيْضًا يَقْتَضِي وُقُوعَ الْمَوْتِ لِأَهْلِ الْجَنَّةِ وَلِأَهْلِ النَّارِ لِأَنَّ كُلَّهُمْ نُفُوسٌ.

وَجَوَابُهُ: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ الْمُكَلَّفُونَ الْحَاضِرُونَ فِي دَارِ التَّكْلِيفِ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ فَإِنَّ هَذَا الْمَعْنَى لَا يَتَأَتَّى إِلَّا فِيهِمْ، وَأَيْضًا الْعَامُّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ يَبْقَى حُجَّةً.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: ذائِقَةُ فَاعِلَةٌ مِنَ الذَّوْقِ، وَاسْمُ الْفَاعِلِ إِذَا أُضِيفَ إِلَى اسْمٍ وَأُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي لَمْ يَجُزْ فِيهِ إِلَّا الْجَرُّ، كَقَوْلِكَ: زَيْدٌ ضَارِبُ عَمْرٍو أَمْسِ، فَإِنْ أَرَدْتَ بِهِ الْحَالَ وَالِاسْتِقْبَالَ جَازَ الْجَرُّ وَالنَّصْبُ تَقُولُ: هُوَ ضَارِبُ زَيْدٍ غَدًا، وَضَارِبٌ زِيدًا غَدًا، قَالَ تعالى: هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ [الزمر: ٣٨] قُرِئَ بِالْوَجْهَيْنِ لِأَنَّهُ لِلِاسْتِقْبَالِ. وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَرَأَ ذائِقَةُ الْمَوْتِ بِالتَّنْوِينِ وَنَصْبِ «الْمَوْتَ» وَهَذَا هُوَ الْأَصْلُ وَقَرَأَ الْأَعْمَشُ ذائِقَةُ الْمَوْتِ بِطَرْحِ التَّنْوِينِ مَعَ النَّصْبِ كَقَوْلِهِ:

وَلَا ذَاكِرَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا

وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَأْتِي فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ: ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ [النساء: ٩٧] إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: زَعَمَتِ الْفَلَاسِفَةُ أَنَّ الْمَوْتَ وَاجِبُ الْحُصُولِ عِنْدَ هَذِهِ الْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ هَذِهِ الْحَيَاةَ الْجُسْمَانِيَّةَ لَا تَحْصُلُ إِلَّا بِالرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ وَالْحَرَارَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، ثُمَّ إِنَّ الْحَرَارَةَ الْغَرِيزِيَّةَ تُؤَثِّرُ فِي تَحْلِيلِ الرُّطُوبَةِ الْغَرِيزِيَّةِ، وَلَا تَزَالُ تَسْتَمِرُّ هَذِهِ الْحَالَةُ إِلَى أَنْ تَفْنَى الرُّطُوبَةُ الْأَصْلِيَّةُ فَتَنْطَفِئَ الْحَرَارَةُ الْغَرِيزِيَّةُ وَيَحْصُلَ الْمَوْتُ، فَبِهَذَا الطَّرِيقِ كَانَ الْمَوْتُ ضَرُورِيًّا فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ. قَالُوا وَقَوْلُهُ: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النُّفُوسَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ، لِأَنَّهُ جَعَلَ النَّفْسَ ذَائِقَةَ الْمَوْتِ، وَالذَّائِقُ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بَاقِيًا حَالَ حُصُولِ الذَّوْقِ، وَالْمَعْنَى أَنَّ كُلَّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ مَوْتِ الْبَدَنِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّفْسَ غَيْرُ الْبَدَنِ، وَعَلَى أَنَّ النَّفْسَ لَا تَمُوتُ بِمَوْتِ الْبَدَنِ، وَأَيْضًا: لَفْظُ النَّفْسِ مُخْتَصٌّ بِالْأَجْسَامِ، وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ ضَرُورَةَ الْمَوْتِ مُخْتَصَّةٌ بِالْحَيَاةِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَأَمَّا الْأَرْوَاحُ الْمُجَرَّدَةُ فَلَا، وَقَدْ جَاءَ فِي الرِّوَايَاتِ مَا هُوَ خِلَافُ ذَلِكَ، فَإِنَّهُ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرَّحْمَنِ: ٢٦] قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مَاتَ أَهْلُ الْأَرْضِ، وَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ مُتْنَا.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمَقْتُولَ يُسَمَّى بِالْمَيِّتِ وَإِنَّمَا لَا يُسَمَّى الْمُذَكَّى بِالْمَيِّتِ بِسَبَبِ التَّخْصِيصِ بِالْعُرْفِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ بَيَّنَ تَعَالَى أَنَّ تَمَامَ الْأَجْرِ وَالثَّوَابِ لَا يَصِلُ إِلَى الْمُكَلَّفِ إِلَّا يَوْمَ الْقِيَامَةِ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْفَعَةٍ تَصِلُ إِلَى الْمُكَلَّفِ فِي الدُّنْيَا فَهِيَ مُكَدَّرَةٌ بِالْغُمُومِ وَالْهُمُومِ وَبِخَوْفِ الِانْقِطَاعِ وَالزَّوَالِ، وَالْأَجْرُ التَّامُّ وَالثَّوَابُ الْكَامِلُ إِنَّمَا يَصِلُ إِلَى الْمُكَلَّفِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لِأَنَّ هُنَاكَ يَحْصُلُ السُّرُورُ بِلَا غَمٍّ، وَالْأَمْنُ بِلَا خَوْفٍ، وَاللَّذَّةُ بِلَا أَلَمٍ وَالسَّعَادَةُ بِلَا خَوْفِ الِانْقِطَاعِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي جَانِبِ الْعِقَابِ فَإِنَّهُ لَا يَحْصُلُ فِي الدُّنْيَا أَلَمٌ خَالِصٌ عَنْ شَوَائِبِ اللَّذَّةِ، بَلْ يَمْتَزِجُ بِهِ رَاحَاتٌ وَتَخْفِيفَاتٌ، وَإِنَّمَا الْأَلَمُ التَّامُّ الْخَالِصُ الْبَاقِي هُوَ الَّذِي يَكُونُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، نَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْهُ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ الزَّحْزَحَةُ التَّنْحِيَةُ وَالْإِبْعَادُ، وَهُوَ تَكْرِيرُ