للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: لَعَلَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ مُسَمًّى بِهَذَيْنِ الِاسْمَيْنِ، فَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ إِنَّ اسْمَهُ الْأَصْلِيَّ كَانَ آزَرَ وَجُعِلَ تَارَحُ لَقَبًا لَهُ، فَاشْتَهَرَ هَذَا اللَّقَبُ وَخَفِيَ الِاسْمُ. فاللَّه تَعَالَى ذَكَرَهُ بِالِاسْمِ، / وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ بِالْعَكْسِ، وَهُوَ أَنَّ تَارَحَ كَانَ اسْمًا أَصْلِيًّا وَآزَرَ كَانَ لَقَبًا غَالِبًا. فَذَكَرَهُ اللَّه تَعَالَى بِهَذَا اللَّقَبِ الْغَالِبِ.

الْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ لَفْظَةُ آزَرَ صفة مخصوصة في لغتم، فَقِيلَ إِنَّ آزَرَ اسْمُ ذَمٍّ فِي لُغَتِهِمْ وَهُوَ الْمُخْطِئُ كَأَنَّهُ قِيلَ، وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ الْمُخْطِئِ كَأَنَّهُ عَابَهُ بِزَيْغِهِ وَكُفْرِهِ وَانْحِرَافِهِ عَنِ الْحَقِّ، وَقِيلَ آزَرُ هُوَ الشَّيْخُ الْهَرِمُ بِالْخُوَارَزْمِيَّةِ، وَهُوَ أَيْضًا فَارِسِيَّةٌ أَصْلِيَّةٌ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ إِنَّمَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِمَا عِنْدَ مَنْ يَقُولُ بِجَوَازِ اشْتِمَالِ الْقُرْآنِ عَلَى أَلْفَاظٍ قَلِيلَةٍ مِنْ غَيْرِ لُغَةِ الْعَرَبِ.

وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّ آزَرَ كَانَ اسْمَ صَنَمٍ يَعْبُدُهُ وَالِدُ إِبْرَاهِيمَ، وَإِنَّمَا سَمَّاهُ اللَّه بِهَذَا الِاسْمِ لِوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا:

أَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَهُ مُخْتَصًّا بِعِبَادَتِهِ وَمَنْ بَالَغَ فِي مَحَبَّةِ أَحَدٍ فَقَدْ يَجْعَلُ اسْمَ الْمَحْبُوبِ اسْمًا لِلْمُحِبِّ. قَالَ اللَّه تَعَالَى:

يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ [الْإِسْرَاءِ: ٧١] وَثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ عَابِدَ آزَرَ فَحُذِفَ الْمُضَافُ وَأُقِيمَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ مَقَامَهُ.

الْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ تَارَحَ وَآزَرُ كَانَ عَمًّا لَهُ، وَالْعَمُّ قَدْ يُطْلَقُ عَلَيْهِ اسْمُ الْأَبِ، كَمَا حَكَى اللَّه تَعَالَى عَنْ أَوْلَادِ يَعْقُوبَ أَنَّهُمْ قَالُوا: نَعْبُدُ إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ [الْبَقَرَةِ:

١٣٣] وَمَعْلُومٌ أَنَّ إِسْمَاعِيلَ كَانَ عَمًّا لِيَعْقُوبَ. وَقَدْ أَطْلَقُوا عَلَيْهِ لَفْظَ الأب فكذا هاهنا. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ التَّكَلُّفَاتِ إِنَّمَا يَجِبُ الْمَصِيرُ إِلَيْهَا لَوْ دَلَّ دَلِيلٌ بَاهِرٌ عَلَى أَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ مَا كَانَ اسْمُهُ آزَرَ وَهَذَا الدَّلِيلُ لَمْ يُوجَدِ الْبَتَّةَ، فَأَيُّ حَاجَةٍ تَحْمِلُنَا عَلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ، وَالدَّلِيلُ الْقَوِيُّ عَلَى صِحَّةِ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ، أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالْمُشْرِكِينَ كَانُوا فِي غَايَةِ الْحِرْصِ عَلَى تَكْذِيبِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَإِظْهَارِ بُغْضِهِ، فَلَوْ كَانَ هَذَا النَّسَبُ كَذِبًا لَامْتَنَعَ فِي الْعَادَةِ سُكُوتُهُمْ عَنْ تَكْذِيبِهِ وَحَيْثُ لَمْ يُكَذِّبُوهُ عَلِمْنَا أَنَّ هَذَا النَّسَبَ صَحِيحٌ واللَّه أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الشِّيعَةُ: إِنَّ أَحَدًا مِنْ آبَاءِ الرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَأَجْدَادِهِ مَا كَانَ كَافِرًا وَأَنْكَرُوا أَنْ يُقَالَ إِنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ كَانَ كَافِرًا وَذَكَرُوا أَنَّ آزَرَ كَانَ عَمَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَمَا كَانَ وَالِدًا لَهُ وَاحْتَجُّوا عَلَى قَوْلِهِمْ بِوُجُوهٍ:

الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ آبَاءَ الْأَنْبِيَاءِ مَا كَانُوا كُفَّارًا وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ: مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ

[الشُّعَرَاءِ: ٢١٨، ٢١٩] .

قِيلَ مَعْنَاهُ: إِنَّهُ كَانَ يَنْقُلُ رُوحَهُ مِنْ سَاجِدٍ إِلَى سَاجِدٍ وَبِهَذَا التَّقْدِيرِ: فَالْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ جَمِيعَ آبَاءِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانُوا مُسْلِمِينَ. وَحِينَئِذٍ يَجِبُ الْقَطْعُ بِأَنَّ وَالِدَ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ مُسْلِمًا.

فَإِنْ قِيلَ: قَوْلُهُ: وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ يَحْتَمِلُ وُجُوهًا أُخَرَ: أَحَدُهَا: إِنَّهُ لَمَّا نُسِخَ فَرْضُ/ قِيَامِ اللَّيْلِ طَافَ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّه عليه وآله وَسَلَّمَ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى بُيُوتِ الصَّحَابَةِ لِيَنْظُرَ مَاذَا يَصْنَعُونَ لِشِدَّةِ حِرْصِهِ عَلَى مَا يَظْهَرُ مِنْهُمْ مِنَ الطَّاعَاتِ فَوَجَدَهَا كَبُيُوتِ الزَّنَابِيرِ لِكَثْرَةِ مَا سَمِعَ مِنْ أَصْوَاتِ قِرَاءَتِهِمْ وَتَسْبِيحِهِمْ وَتَهْلِيلِهِمْ. فالمراد من قوله:

<<  <  ج: ص:  >  >>