الْغَارِ، وَفِي مَنَازِلِ مَنْ آمَنَ بِهِ لَمَّا أَرَادُوا قَتْلَهُ، ثُمَّ إِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ خَرَجَ مَعَ أُمِّهِ يَسِيحَانِ فِي الْأَرْضِ، فَاتُّفِقَ أَنَّهُ/ نَزَلَ فِي قَرْيَةٍ عَلَى رَجُلٍ فَأَحْسَنَ ذَلِكَ الرَّجُلُ ضِيَافَتَهُ وَكَانَ فِي تِلْكَ الْمَدِينَةِ مَلِكٌ جَبَّارٌ فَجَاءَ ذَلِكَ الرَّجُلُ يَوْمًا حَزِينًا، فَسَأَلَهُ عِيسَى عَنِ السَّبَبِ فَقَالَ: مَلِكُ هَذِهِ الْمَدِينَةِ رَجُلٌ جَبَّارٌ وَمِنْ عَادَتِهِ أَنَّهُ جَعَلَ عَلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنَّا يَوْمًا يُطْعِمُهُ وَيَسْقِيهِ هُوَ وَجُنُودَهُ، وَهَذَا الْيَوْمُ نَوْبَتِي وَالْأَمْرُ مُتَعَذِّرٌ عَلَيَّ، فَلَمَّا سَمِعَتْ مَرْيَمُ عَلَيْهَا السَّلَامُ ذَلِكَ، قَالَتْ: يَا بُنَيَّ ادْعُ اللَّهَ لِيَكْفِيَ ذَلِكَ، فَقَالَ: يَا أُمَّاهُ إِنْ فَعَلْتُ ذَلِكَ كَانَ شر، فَقَالَتْ: قَدْ أَحْسَنَ وَأَكْرَمَ وَلَا بُدَّ مِنْ إِكْرَامِهِ فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: إِذَا قَرُبَ مَجِيءُ الْمَلِكِ فَامْلَأْ قُدُورَكَ وَخَوَابِيَكَ مَاءً ثُمَّ أَعْلِمْنِي، فَلَمَّا فَعَلَ ذَلِكَ دَعَا اللَّهَ تَعَالَى فَتَحَوَّلَ مَا فِي الْقُدُورِ طَبِيخًا، وَمَا فِي الْخَوَابِي خَمْرًا، فَلَمَّا جَاءَهُ الْمَلِكُ أَكَلَ وَشَرِبَ وَسَأَلَهُ مِنْ أَيْنَ هَذَا الْخَمْرُ؟ فَتَعَلَّلَ الرَّجُلُ فِي الْجَوَابِ فَلَمْ يَزَلِ الْمَلِكُ يُطَالِبُهُ بِذَلِكَ حَتَّى أَخْبَرَهُ بِالْوَاقِعَةِ فَقَالَ: إِنَّ مَنْ دَعَا اللَّهَ حَتَّى جَعَلَ الْمَاءَ خَمْرًا إِذَا دَعَا أَنْ يُحْيِيَ اللَّهُ تَعَالَى وَلَدِي لَا بُدَّ وَأَنْ يُجَابَ، وَكَانَ ابْنُهُ قَدْ مَاتَ قَبْلَ ذَلِكَ بِأَيَّامٍ، فَدَعَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ وَطَلَبَ منه ذلك، فقال عيسى: لا نفعل، فَإِنَّهُ إِنْ عَاشَ كَانَ شَرًّا، فَقَالَ: مَا أُبَالِي مَا كَانَ إِذَا رَأَيْتُهُ، وَإِنْ أَحْيَيْتَهُ تَرَكْتُكَ عَلَى مَا تَفْعَلُ، فَدَعَا اللَّهَ عِيسَى، فَعَاشَ الْغُلَامُ، فَلَمَّا رَآهُ أَهْلُ مَمْلَكَتِهِ قَدْ عَاشَ تَبَادَرُوا بِالسِّلَاحِ وَاقْتَتَلُوا، وَصَارَ أَمْرُ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ مَشْهُورًا فِي الْخَلْقِ، وَقَصَدَ الْيَهُودُ قَتْلَهُ، وَأَظْهَرُوا الطَّعْنَ فِيهِ وَالْكُفْرَ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: إِنَّ الْيَهُودَ كَانُوا عَارِفِينَ بِأَنَّهُ هُوَ الْمَسِيحُ الْمُبَشَّرُ بِهِ فِي التَّوْرَاةِ، وَأَنَّهُ يَنْسَخُ دِينَهُمْ، فَكَانُوا مِنْ أَوَّلِ الْأَمْرِ طَاعِنِينَ فِيهِ، طَالِبِينَ قَتْلَهُ، فَلَمَّا أَظْهَرَ الدَّعْوَةَ اشْتَدَّ غَضَبُهُمْ، وَأَخَذُوا فِي إِيذَائِهِ وَإِيحَاشِهِ وَطَلَبُوا قَتْلَهُ.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: إِنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ ظَنَّ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ إِلَى الْإِيمَانِ أَنَّهُمْ لَا يؤمنون به وأن دعوته لا تنجح فِيهِمْ فَأَحَبَّ أَنْ يَمْتَحِنَهُمْ لِيَتَحَقَّقَ مَا ظَنَّهُ بِهِمْ فَقَالَ لَهُمْ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فَمَا أَجَابَهُ إِلَّا الْحَوَارِيُّونَ، فَعِنْدَ ذَلِكَ أَحَسَّ بِأَنَّ مَنْ سِوَى الْحَوَارِيِّينَ كَافِرُونَ مُصِرُّونَ عَلَى إِنْكَارِ دِينِهِ وَطَلَبِ قَتْلِهِ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ فَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: فِي الْآيَةِ أَقْوَالٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ لَمَّا دَعَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَى الدِّينِ، وَتَمَرَّدُوا عَلَيْهِ فَرَّ مِنْهُمْ وَأَخَذَ يَسِيحُ فِي الْأَرْضِ فَمَرَّ بِجَمَاعَةٍ مِنْ صَيَّادِي السَّمَكِ، وَكَانَ فِيهِمْ شَمْعُونُ وَيَعْقُوبُ وَيُوحَنَّا ابْنَا زَيْدِي وَهُمْ مِنْ جُمْلَةِ الْحَوَارِيِّينَ الِاثْنَيْ عَشَرَ فَقَالَ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ: الْآنَ تَصِيدُ السَّمَكَ، فَإِنْ تَبِعْتَنِي صِرْتَ بِحَيْثُ تَصِيدُ النَّاسُ لِحَيَاةِ الْأَبَدِ، فَطَلَبُوا مِنْهُ الْمُعْجِزَةَ، وَكَانَ شَمْعُونُ قَدْ رَمَى شَبَكَتَهُ تِلْكَ اللَّيْلَةَ فِي الْمَاءِ فَمَا اصْطَادَ شَيْئًا فَأَمَرَهُ عِيسَى بِإِلْقَاءِ شَبَكَتِهِ فِي الْمَاءِ مَرَّةً أُخْرَى، فَاجْتَمَعَ فِي تِلْكَ الشَّبَكَةِ مِنَ السَّمَكِ مَا كَادَتْ تَتَمَزَّقُ مِنْهُ، وَاسْتَعَانُوا بأهل سفينة أخرى، وملئوا السَّفِينَتَيْنِ، فَعِنْدَ ذَلِكَ آمَنُوا بِعِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ إِنَّمَا كَانَ فِي آخِرِ أَمْرِهِ حِينَ اجْتَمَعَ الْيَهُودُ عَلَيْهِ طَلَبًا لِقَتْلِهِ، ثُمَّ هَاهُنَا احْتِمَالَاتٌ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا طَلَبُوهُ لِلْقَتْلِ وَكَانَ هُوَ فِي الْهَرَبِ عَنْهُمْ قَالَ لِأُولَئِكَ الِاثْنَيْ عَشَرَ مِنَ الْحَوَارِيِّينَ:
أَيُّكُمْ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ رَفِيقِي فِي الْجَنَّةِ عَلَى أَنْ يُلْقَى عَلَيْهِ شَبَهِي فَيُقْتَلَ مَكَانِي؟.
فَأَجَابَهُ إِلَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ وَفِيمَا تَذْكُرُهُ النَّصَارَى فِي إِنْجِيلِهِمْ: أَنَّ الْيَهُودَ لَمَّا أَخَذُوا عِيسَى سَلَّ شَمْعُونُ سَيْفَهُ فَضَرَبَ بِهِ عَبْدًا كَانَ فِيهِمْ لِرَجُلٍ مِنَ الْأَحْبَارِ عَظِيمٍ فَرَمَى بِأُذُنِهِ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى: حَسْبُكَ ثُمَّ أَخَذَ أُذُنَ الْعَبْدِ فَرَدَّهَا إِلَى مَوْضِعِهَا، فَصَارَتْ كَمَا كَانَتْ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْغَرَضَ مِنْ طَلَبِ النُّصْرَةِ إِقْدَامُهُمْ عَلَى دَفْعِ الشَّرِّ عنه.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute