للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

اعْلَمْ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا وَعَدَ رَسُولَهُ بِأَنْ يُرِيَهُ بَعْضَ مَا وُعِدُوهُ أَوْ يَتَوَفَّاهُ قَبْلَ ذَلِكَ، بَيَّنَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ آثَارَ حُصُولِ تِلْكَ الْمَوَاعِيدِ وَعَلَامَاتِهَا قَدْ ظَهَرَتْ وَقَوِيَتْ. وَقَوْلُهُ: أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها فِيهِ أَقْوَالٌ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ أَنَّا نَأْتِي أَرْضَ الْكَفَرَةِ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَذَلِكَ لِأَنَّ الْمُسْلِمِينَ يَسْتَوْلُونَ عَلَى أَطْرَافِ مَكَّةَ وَيَأْخُذُونَهَا مِنَ الْكَفَرَةِ قَهْرًا وَجَبْرًا فَانْتِقَاصُ أَحْوَالِ الْكَفَرَةِ وَازْدِيَادُ قُوَّةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَقْوَى الْعَلَامَاتِ وَالْأَمَارَاتِ عَلَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُنْجِزُ وَعْدَهُ. وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَفَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَفَهُمُ الْغالِبُونَ [الأنبياء: ٤٤] وَقَوْلُهُ: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ [فُصِّلَتْ: ٥٣] .

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَيْضًا مَنْقُولٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ قَوْلَهُ: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها الْمُرَادُ:

مَوْتُ أَشْرَافِهَا وَكُبَرَائِهَا وَعُلَمَائِهَا وَذَهَابُ الصُّلَحَاءِ وَالْأَخْيَارِ، وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَهَذَا الْقَوْلُ وَإِنِ احْتَمَلَهُ اللَّفْظُ إِلَّا أَنَّ اللَّائِقَ بِهَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ الوجه الْأَوَّلُ. وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ هَذَا الوجه أَيْضًا لَا يَلِيقُ بِهَذَا الْمَوْضِعِ، وَتَقْرِيرُهُ أَنْ يُقَالَ: أَوَلَمْ يَرَوْا مَا يَحْدُثُ فِي الدُّنْيَا مِنَ الِاخْتِلَافَاتِ خَرَابٌ بَعْدَ عِمَارَةٍ، وَمَوْتٌ بَعْدَ حَيَاةٍ، وَذُلٌّ بَعْدَ عِزٍّ، وَنَقْصٌ بَعْدَ كَمَالٍ، وَإِذَا كَانَتْ هَذِهِ التَّغَيُّرَاتُ مُشَاهَدَةً مَحْسُوسَةً فَمَا الَّذِي يُؤَمِّنُهُمْ مِنْ أَنْ يَقْلِبَ اللَّهُ الْأَمْرَ عَلَى هَؤُلَاءِ الْكَفَرَةِ فَيَجْعَلَهُمْ ذَلِيلِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا عَزِيزِينَ، وَيَجْعَلَهُمْ مَقْهُورِينَ بَعْدَ أَنْ كَانُوا قَاهِرِينَ، وَعَلَى هَذَا الوجه فَيَحْسُنُ اتِّصَالُ هَذَا الْكَلَامِ بِمَا قَبْلَهُ، وَقِيلَ: نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بِمَوْتِ أَهْلِهَا وَتَخْرِيبِ دِيَارِهِمْ وَبِلَادِهِمْ فَهَؤُلَاءِ الْكَفَرَةُ/ كَيْفَ أَمِنُوا مِنْ أَنْ يَحْدُثَ فِيهِمْ أَمْثَالُ هَذِهِ الْوَقَائِعِ؟

ثم قال تَعَالَى مُؤَكِّدًا لِهَذَا الْمَعْنَى: وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ مَعْنَاهُ: لَا رَادَّ لِحُكْمِهِ، وَالْمُعَقِّبُ هُوَ الَّذِي يُعَقِّبُهُ بِالرَّدِّ وَالْإِبْطَالِ، وَمِنْهُ قِيلَ لِصَاحِبِ الْحَقِّ مُعَقِّبٌ لِأَنَّهُ يُعَقِّبُ غَرِيمَهُ بِالِاقْتِضَاءِ وَالطَّلَبِ.

فَإِنْ قِيلَ: مَا مَحَلُّ قَوْلِهِ: لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ.

قُلْنَا: هُوَ جُمْلَةٌ مَحَلُّهَا النَّصْبُ عَلَى الْحَالِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَاللَّهُ يَحْكُمُ نَافِذًا حُكْمُهُ خَالِيًا عَنِ الْمُدَافِعِ وَالْمُعَارِضِ وَالْمُنَازِعِ.

ثم قال: وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُرِيدُ سَرِيعَ الِانْتِقَامِ يَعْنِي أَنَّ حِسَابَهُ لِلْمُجَازَاةِ بِالْخَيْرِ وَالشَّرِّ يَكُونُ سَرِيعًا قَرِيبًا لَا يَدْفَعُهُ دَافِعٌ.

أما قوله: وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يَعْنِي أَنَّ كُفَّارَ الْأُمَمِ الْمَاضِيَةِ قَدْ مَكَرُوا بِرُسُلِهِمْ وأنبيائهم مثل نمرود مَكَرَ بِإِبْرَاهِيمَ، وَفِرْعَوْنَ مَكَرَ بِمُوسَى، وَالْيَهُودِ مَكَرُوا بِعِيسَى.

ثم قال: فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً قَالَ الْوَاحِدِيُّ: مَعْنَاهُ أَنَّ مَكْرَ جَمِيعِ الْمَاكِرِينَ لَهُ وَمِنْهُ، أَيْ هُوَ حَاصِلٌ بِتَخْلِيقِهِ وَإِرَادَتِهِ، لِأَنَّهُ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ الْخَالِقُ لِجَمِيعِ أَعْمَالِ الْعِبَادِ، وَأَيْضًا فَذَلِكَ الْمَكْرُ لَا يَضُرُّ إلا بإذن الله تعالى ولا يؤثر إلى بِتَقْدِيرِهِ، وَفِيهِ تَسْلِيَةٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمَانٌ لَهُ مِنْ مَكْرِهِمْ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِذَا كَانَ حُدُوثُ الْمَكْرِ مِنَ اللَّهِ وَتَأْثِيرُهُ مِنَ الْمَمْكُورِ بِهِ أَيْضًا مِنَ اللَّهِ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ الْخَوْفُ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى وَأَنْ لَا يَكُونَ الرَّجَاءُ إِلَّا من

<<  <  ج: ص:  >  >>