للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

الْهِدَايَةِ احْتَمَلُوا الشَّدَائِدَ فِي إِقَامَةِ الْحَقِّ وَصَبَرُوا عَلَى الْبَلْوَى، فَكَذَا أَنْتُمْ يَا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ لَا تَسْتَحِقُّونَ الْفَضِيلَةَ فِي الدِّينِ إِلَّا بِتَحَمُّلِ هَذِهِ الْمِحَنِ.

وَفِي الْآيَةِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي لَفْظِ «أَمْ» فِي تَفْسِيرِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ [البقرة: ١٣٣] والذي نريده هاهنا أَنْ نَقُولَ «أَمْ» اسْتِفْهَامٌ مُتَوَسِّطٌ كَمَا أَنَّ (هَلْ) اسْتِفْهَامٌ سَابِقٌ، فَيَجُوزُ أَنْ يَقُولَ: هَلْ عِنْدَكَ رَجُلٌ، أَعِنْدَكَ رَجُلٌ؟ ابْتِدَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: أَمْ عِنْدَكَ رَجُلٌ، فَأَمَّا إِذَا كَانَ مُتَوَسِّطًا جَازَ سَوَاءٌ كَانَ مَسْبُوقًا بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ أَوْ لَا يَكُونُ، أَمَّا إِذَا كَانَ مَسْبُوقًا بِاسْتِفْهَامٍ آخَرَ فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَنْتَ رَجُلٌ لَا تُنْصِفُ، أَفَعَنْ جَهْلٍ تَفْعَلُ هَذَا أَمْ لَكَ سُلْطَانٌ؟ وَأَمَّا الَّذِي لَا يَكُونُ مَسْبُوقًا بِالِاسْتِفْهَامِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ:

الم تَنْزِيلُ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ [السَّجْدَةِ: ١- ٣] وَهَذَا الْقِسْمُ يَكُونُ فِي تَقْدِيرِ الْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَالتَّقْدِيرُ: أَفَيُؤْمِنُونَ بِهَذَا أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ؟ فَكَذَا تَقْدِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ: فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ، فَصَبَرُوا عَلَى اسْتِهْزَاءِ قَوْمِهِمْ بِهِمْ، أَفَتَسْلُكُونَ سَبِيلَهُمْ، أَمْ تَحْسَبُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ مِنْ غَيْرِ سُلُوكِ سَبِيلِهِمْ؟ هَذَا مَا لَخَّصَهُ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ أَيْ وَلَمْ يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا وَذَكَرَ الْكُوفِيُّونَ مِنْ أَهْلِ النَّحْوِ أَنَّ (لَمَّا) إِنَّمَا هِيَ (لَمْ) وَ (مَا) زَائِدَةٌ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: (مَا) لَيْسَتْ زَائِدَةً لِأَنَّ (لَمَّا) تَقَعُ فِي مَوَاضِعَ لَا تَقَعُ فِيهَا (لَمْ) يَقُولُ الرَّجُلُ لِصَاحِبِهِ: أَقَدِمَ فُلَانٌ؟ فَيَقُولُ: (لَمَّا) وَلَا يَقُولُ: (لَمْ) مُفْرَدَةً، قَالَ الْمُبَرِّدُ: إِذَا قَالَ الْقَائِلُ: لَمْ يَأْتِنِي زَيْدٌ، فَهُوَ نَفْيٌ لِقَوْلِكَ أَتَاكَ زَيْدٌ وَإِذَا قَالَ: لَمَّا يَأْتِنِي فَمَعْنَاهُ أَنَّهُ لَمْ يَأْتِنِي بَعْدُ وَأَنَا أَتَوَقَّعُهُ قَالَ النَّابِغَةُ:

أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أَنَّ رِكَابَنَا ... لَمَّا نزل بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ

فَعَلَى هَذَا قَوْلُهُ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِتْيَانَ ذَلِكَ مُتَوَقَّعٌ مُنْتَظَرٌ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ:

قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، اشْتَدَّ الضَّرَرُ عَلَيْهِمْ، لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا بِلَا مَالٍ، وَتَرَكُوا دِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي أَيْدِي الْمُشْرِكِينَ، وَأَظْهَرَتِ الْيَهُودُ الْعَدَاوَةِ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى تَطْيِيبًا لِقُلُوبِهِمْ أَمْ حَسِبْتُمْ

وَقَالَ قَتَادَةُ وَالسُّدِّيُّ: نَزَلَتْ فِي غَزْوَةِ الْخَنْدَقِ حِينَ أَصَابَ الْمُسْلِمِينَ مَا أَصَابَهُمْ مِنَ الْجَهْدِ وَالْحَزَنِ، وَكَانَ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى: وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ [الْأَحْزَابِ: ١٠] وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي حَرْبِ أُحُدٍ لَمَّا قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ لِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِلَى مَتَى تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتَرْجُونَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَانَ مُحَمَّدٌ نَبِيًّا لَمَا سَلَّطَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ الْأَسْرَ وَالْقَتْلَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ.

وَاعْلَمْ أَنَّ تَقْدِيرَ الْآيَةِ: أَمْ حَسِبْتُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمُجَرَّدِ الْإِيمَانِ بِي وَتَصْدِيقِ رَسُولِي، دُونَ أَنْ تَعْبُدُوا اللَّهَ بِكُلِّ مَا تَعَبَّدَكُمْ بِهِ، وَابْتَلَاكُمْ بِالصَّبْرِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يَنَالُكُمْ مِنْ أَذَى الْكُفَّارِ، وَمِنَ احْتِمَالِ الْفَقْرِ وَالْفَاقَةِ، ومكايدة الضُّرِّ وَالْبُؤْسِ فِي الْمَعِيشَةِ، وَمُقَاسَاةِ الْأَهْوَالِ فِي مُجَاهَدَةِ الْعَدُوِّ، كَمَا كَانَ كَذَلِكَ مَنْ قَبْلَكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ، وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْمَثَلُ هُوَ الْمِثْلُ وَهُوَ الشَّبَهُ، وَهُمَا لُغَتَانِ: مَثَلٌ ومثل كشبه وَشِبْهٌ، إِلَّا أَنَّ الْمَثَلَ مُسْتَعَارٌ لِحَالَةٍ غَرِيبَةٍ أَوْ قِصَّةٍ عَجِيبَةٍ لَهَا شَأْنٌ وَمِنْهُ قَوْلُهُ تعالى: وَلِلَّهِ