إِشَارَةً إِلَى مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ عَلَى الْإِنْسِ وَالْجِنِّ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ أَوَّلًا مَا يَخَافُ مِنْهُ الْإِنْسَانُ، ثُمَّ ذَكَرَ مَا يَخَافُ مِنْهُ كُلُّ وَاحِدٍ مِمَّنْ لَهُ إدراك من الجن والإنس والملك حيث تخلوا أَمَاكِنُهُمْ بِالشَّقِّ وَمَسَاكِنُ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ بِالْخَرَابِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ: كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ [الرحمن: ٢٦] إِشَارَةً إِلَى سُكَّانِ الْأَرْضِ، قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بَيَانًا لِحَالِ سُكَّانِ السَّمَاءِ، وَفِيهِ مَسَائِلُ.
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: الْفَاءُ فِي الْأَصْلِ لِلتَّعْقِيبِ عَلَى وُجُوهٍ ثَلَاثَةٍ مِنْهَا: التَّعْقِيبُ الزَّمَانِيُّ لِلشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ عَقْلًا كَقَوْلِهِ قَعَدَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو، لِمَنْ سَأَلَكَ عن قعود زيد وقيام عمر، وَإِنَّهُمَا كَانَا مَعًا أَوْ مُتَعَاقِبَيْنِ وَمِنْهَا: التَّعْقِيبُ الذِّهْنِيُّ لِلَّذِينَ يَتَعَلَّقُ أَحَدُهُمَا بِالْآخَرِ كَقَوْلِكَ: جَاءَ زَيْدٌ فَقَامَ عَمْرٌو إِكْرَامًا لَهُ إِذْ يَكُونُ فِي مِثْلِ هَذَا قِيَامُ عَمَرٍو مَعَ مَجِيءِ زَيْدٍ زَمَانًا وَمِنْهَا: التَّعْقِيبُ فِي الْقَوْلِ كَقَوْلِكَ: لَا أَخَافُ الْأَمِيرَ فَالْمَلِكَ فَالسُّلْطَانَ، كَأَنَّكَ تَقُولُ: أَقُولُ لَا أَخَافُ الْأَمِيرَ، وَأَقُولُ لَا أَخَافُ الْمَلِكَ، وَأَقُولُ لَا أَخَافُ السُّلْطَانَ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالْفَاءُ هُنَا تَحْتَمِلُ الْأَوْجُهَ جَمِيعًا، أَمَّا الْأَوَّلُ: فَلِأَنَّ إِرْسَالَ الشُّوَاظِ عَلَيْهِمْ يَكُونُ قَبْلَ انشقاق السموات، وَيَكُونُ ذَلِكَ الْإِرْسَالُ/ إِشَارَةً إِلَى عَذَابِ الْقَبْرِ، وَإِلَى مَا يَكُونُ عِنْدَ سَوْقِ الْمُجْرِمِينَ إِلَى الْمَحْشَرِ، إِذْ وَرَدَ فِي التَّفْسِيرِ أَنَّ الشُّوَاظَ يَسُوقُهُمْ إِلَى الْمَحْشَرِ، فَيَهْرَبُونَ مِنْهَا إِلَى أَنْ يَجْتَمِعُوا فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، وَعَلَى هَذَا مَعْنَاهُ يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ، فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ، وَالْحِسَابُ الشَّدِيدُ عَلَى مَا سَنُبَيِّنُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ وَأَمَّا الثَّانِي:
فَوَجْهُهُ أَنْ يُقَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَيَكُونُ ذَلِكَ سَبَبًا لِكَوْنِ السَّمَاءِ تَكُونُ حَمْرَاءَ، إِشَارَةً إِلَى أَنَّ لَهِيبَهَا يَصِلُ إِلَى السَّمَاءِ وَيَجْعَلُهَا كَالْحَدِيدِ الْمُذَابِ الْأَحْمَرِ، وَأَمَّا الثَّالِثُ: فَوَجْهُهُ أن يقال: لما قال: فَلا تَنْتَصِرانِ [الرحمن: ٣٥] أَيْ فِي وَقْتِ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ عَلَيْكُمَا قَالَ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَصَارَتْ كَالْمُهْلِ، وَهُوَ كَالطِّينِ الذَّائِبِ، كَيْفَ تَنْتَصِرَانِ؟ إِشَارَةً إِلَى أَنَّ الشُّوَاظَ الْمُرْسَلَ لَهَبٌ وَاحِدٌ، أَوْ فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ وَذَابَتْ، وَصَارَتِ الْأَرْضُ وَالْجَوُّ وَالسَّمَاءُ كُلُّهَا نَارًا فَكَيْفَ تَنْتَصِرَانِ؟
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: كَلِمَةُ (إِذَا) قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِمُجَرَّدِ الظَّرْفِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ وَقَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلْمُفَاجَأَةِ وَإِنْ كَانَتْ فِي أَوْجُهِهَا ظَرْفًا لَكِنْ بَيْنَهَا فَرْقٌ فَالْأَوَّلُ: مِثْلَ قَوْلِهِ تَعَالَى: وَاللَّيْلِ إِذا يَغْشى وَالنَّهارِ إِذا تَجَلَّى [اللَّيْلِ: ١، ٢] وَالثَّانِي: مِثْلَ قَوْلِهِ: إِذَا أَكْرَمْتَنِي أُكْرِمْكَ وَمِنْ هَذَا الْبَابِ قَوْلُهُ تَعَالَى: فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ [آلِ عِمْرَانَ: ١٥٩] وَفِي الْأَوَّلِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ الْفِعْلُ فِي الْوَقْتِ الْمَذْكُورِ مُتَّصِلًا بِهِ وَفِي الثَّانِي لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ، فَإِنَّكَ إِذَا قُلْتَ: إِذَا عَلَّمْتَنِي تُثَابُ يَكُونُ الثَّوَابُ بَعْدَهُ زَمَانًا لَكِنَّ اسْتِحْقَاقَهُ يَثْبُتُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مُتَّصِلًا بِهِ وَالثَّالِثُ: مِثَالُ مَا يَقُولُ: خَرَجْتُ فَإِذَا قَدْ أَقْبَلَ الرَّكْبُ أَمَّا لو قال: خرجت إذا أَقْبَلَ الرَّكْبُ فَهُوَ فِي جَوَابِ مَنْ يَقُولُ مَتَى خَرَجْتَ إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: عَلَى أَيِّ وَجْهٍ اسْتَعْمَلَ (إِذَا) هَاهُنَا؟ نَقُولُ: يَحْتَمِلُ وَجْهَيْنِ أَحَدُهُمَا:
الظَّرْفِيَّةُ الْمُجَرَّدَةُ عَلَى أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ الزَّمَانِيِّ، فَإِنَّ قَوْلَهُ: فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ بَيَانٌ لِوَقْتِ الْعَذَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ يَكُونُ الْعَذَابُ أَيْ بَعْدَ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ، وَعِنْدَ انْشِقَاقِ السَّمَاءِ يَكُونُ وَثَانِيهِمَا: الشَّرْطِيَّةُ وَذَلِكَ عَلَى الْوَجْهِ الثَّالِثِ وَهُوَ قَوْلُنَا: فَلا تَنْتَصِرانِ عِنْدَ إِرْسَالِ الشُّوَاظِ فَكَيْفَ تَنْتَصِرَانِ إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ، كَأَنَّهُ قَالَ: إِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَلَا تَتَوَقَّعُوا الِانْتِصَارَ أَصْلًا، وَأَمَّا الْحَمْلُ عَلَى الْمُفَاجَأَةِ عَلَى أَنْ يُقَالَ: يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ فَإِذَا السَّمَاءُ قَدِ انْشَقَّتْ، فَبَعِيدٌ وَلَا يُحْمَلُ ذَلِكَ إِلَّا عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي مِنْ أَنَّ الْفَاءَ لِلتَّعْقِيبِ الذِّهْنِيِّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: مَا الْمُخْتَارُ مِنَ الْأَوْجُهِ؟ نَقُولُ: الشَّرْطِيَّةُ وَحِينَئِذٍ لَهُ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ الْجَزَاءُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute