الْأَوْلَى كَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ اللَّائِقُ بِفَضْلِكَ وَسَعَةِ هِمَّتِكَ أَنْ لَا تَقْطَعَ هَذَا فَكَانَ هَذَا إِرْشَادًا إِلَى الْأَوْلَى لَا مَنْعًا عَنِ الْمُحَرَّمِ.
المسألة الثَّالِثَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: أُولِي الْقُرْبى وَالْمَساكِينَ وَالْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِسْطَحٌ لِأَنَّهُ كَانَ قَرِيبًا لِأَبِي بَكْرٍ وَكَانَ مِنَ الْمَسَاكِينِ وَكَانَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا فِي الذَّنْبِ الَّذِي وَقَعَ مِنْهُ فَقَالَ بَعْضُهُمْ قَذَفَ كَمَا فَعَلَهُ عَبْدُ اللَّه بْنُ أُبَيٍّ فَإِنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَدَّهُ وَأَنَّهُ تَابَ عَنْ ذَلِكَ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَ تَارِكًا لِلنُّكْرِ وَمِظْهِرًا لِلرِّضَا، وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ فَهُوَ ذَنْبٌ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: احْتَجَّ أَصْحَابُنَا بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى بُطْلَانِ الْمُحَابَطَةِ وَقَالُوا إِنَّهُ سُبْحَانَهُ وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّه بَعْدَ أَنْ أَتَى بِالْقَذْفِ، وَهَذِهِ صِفَةُ مَدْحٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ ثَوَابَ كَوْنِهِ مُهَاجِرًا لَمْ يُحْبَطْ بِإِقْدَامِهِ عَلَى الْقَذْفِ.
المسألة الْخَامِسَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مِسْطَحًا كَانَ مِنَ الْبَدْرِيِّينَ وَثَبَتَ بِالرِّوَايَةِ الصَّحِيحَةِ
أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «لَعَلَّ اللَّه نَظَرَ إِلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»
فَكَيْفَ/ صَدَرَتِ الْكَبِيرَةُ مِنْهُ بَعْدَ أَنْ كَانَ بَدْرِيًّا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْهُ افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ مِنَ الْمَعَاصِي فَيَأْمُرُ بِهَا أَوْ يُقِيمُهَا لِأَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ التَّكْلِيفَ كَانَ بَاقِيًا عَلَيْهِمْ لَوْ حَمَلْنَاهُ عَلَى ذَلِكَ لَاقْتَضَى زَوَالَ التَّكْلِيفِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّهُ لَوْ كَانَ كَذَلِكَ لَمَا جَازَ أَنْ يُحَدَّ مِسْطَحٌ عَلَى مَا فَعَلَ وَيُلْعَنُ، فَوَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى أَحَدِ أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ وَقَدْ علم توبتهم وإنابتهم قال افْعَلُوا مَا شِئْتُمْ مِنَ النَّوَافِلِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ وَأَعْطَيْتُكُمُ الدَّرَجَاتِ الْعَالِيَةَ فِي الْجَنَّةِ الثَّانِي: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُمْ يُوَافُونَ بِالطَّاعَةِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: قَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ لِعِلْمِي بِأَنَّكُمْ تَمُوتُونَ عَلَى التَّوْبَةِ وَالْإِنَابَةِ فَذَكَرَ حَالَهُمْ فِي الْوَقْتِ وَأَرَادَ الْعَاقِبَةَ.
المسألة السَّادِسَةُ: الْعَفْوُ وَالصَّفْحُ عَنِ الْمُسِيءِ حَسَنٌ مَنْدُوبٌ إِلَيْهِ، وَرُبَّمَا وَجَبَ ذَلِكَ وَلَوْ لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهِ إِلَّا هَذِهِ الْآيَةُ لَكَفَى، أَلَا ترى إل قوله: أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النُّورِ: ٢٢] فَعَلَّقَ الْغُفْرَانَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «مَنْ لَمْ يَقْبَلْ عُذْرًا لِمُتَنَصِّلٍ كَاذِبًا كَانَ أَوْ صَادِقًا فَلَا يَرِدُ عَلَى حَوْضِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «أَفْضَلُ أَخْلَاقِ الْمُسْلِمِينَ الْعَفْوُ»
وَعَنْهُ أَيْضًا: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّه أَجْرٌ فَلْيَقُمْ فَلَا يَقُومُ إِلَّا أَهْلُ الْعَفْوِ، ثُمَّ تَلَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّه»
وَعَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَيْضًا: «لَا يَكُونُ الْعَبْدُ ذَا فَضْلٍ حَتَّى يَصِلَ مَنْ قَطَعَهُ وَيَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَهُ وَيُعْطِيَ مَنْ حَرَمَهُ» .
المسألة السَّابِعَةُ: فِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْيَمِينَ عَلَى الِامْتِنَاعِ مِنَ الْخَيْرِ غَيْرُ جَائِزَةٍ، وَإِنَّمَا تَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ دَاعِيَةً لِلْخَيْرِ لَا صَارِفَةً عَنْهُ.
المسألة الثَّامِنَةُ: مَذْهَبُ الْجُمْهُورِ الْفُقَهَاءِ أَنَّهُ مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا منها أنا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَأْتِيَ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ثُمَّ يُكَفِّرَ عَنْ يَمِينِهِ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ إِنَّهُ يَأْتِي بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ، وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ وَاحْتَجَّ ذَلِكَ الْقَائِلُ بِالْآيَةِ وَالْخَبَرِ، أَمَّا الْآيَةُ فَهِيَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ أَبَا بَكْرٍ بِالْحِنْثِ وَلَمْ يُوجِبْ عَلَيْهِ كَفَّارَةً، وَأَمَّا الْخَبَرُ فَمَا
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «مَنْ حَلَفَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَلْيَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَذَلِكَ كَفَّارَتُهُ»
وَأَمَّا دَلِيلُ قَوْلِ الْجُمْهُورِ فَأُمُورٌ: أَحَدُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ [الْمَائِدَةِ: ٨٩] فَكَفَّارَتُهُ وَقَوْلُهُ: