يَمُوتَ، فَلَمَّا تَنَاوَلَهُ وَظَنَّ الْقَوْمُ أَنَّهُ سَيَمُوتُ فِي الْحَالِ رَفَعُوهُ مِنْ مَوْضِعِهِ وَوَضَعُوهُ فِي بَيْتٍ مُظْلِمٍ فَخَرَجَتْ حَيَّةٌ عَظِيمَةٌ فَلَدَغَتْهُ فَصَارَتْ تِلْكَ اللَّدْغَةُ سَبَبًا لِانْدِفَاعِ ضَرَرِ ذَلِكَ الْأَفْيُونِ مِنْهُ، فَإِنَّ الْأَفْيُونَ يُقْتَلُ بِقُوَّةِ بَرْدِهِ، وَسُمَّ الْأَفْعَى يَقْتُلُ بِقُوَّةِ حَرِّهِ فَصَارَتْ تِلْكَ اللَّدْغَةُ سببا لاندفاع ضرر الأفيون، فههنا تولد عما يعتقد فيه كونه أعظم تَدُلُّ عَلَى أَنَّ لِهَذَا الْعَالَمِ مُدَبِّرًا حَكِيمًا مَا أَهْمَلَ مَصَالِحَ الْخَلْقِ وَمَا تَرَكَهُمْ سُدًى، وَتَحْتَ هَذِهِ الْمَبَاحِثِ مَبَاحِثُ عَالِيَةٌ شَرِيفَةٌ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: مِنْ مَبَاحِثِ هَذِهِ الْآيَةِ قَرَأَ نَافِعٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ وَحَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ الْمَيِّتِ مُشَدَّدَةً فِي الْكَلِمَتَيْنِ وَالْبَاقُونَ بِالتَّخْفِيفِ فِي الْكَلِمَتَيْنِ، وَكَذَلِكَ كُلُّ هَذَا الْجِنْسِ فِي الْقُرْآنِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: إِنَّهُ قَالَ أَوَّلًا: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ ثُمَّ قَالَ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ وَعَطْفُ الِاسْمِ عَلَى الْفِعْلِ قَبِيحٌ، فَمَا السَّبَبُ فِي اخْتِيَارِ ذَلِكَ؟
قُلْنَا: قَوْلُهُ: وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وَقَوْلُهُ: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كَالْبَيَانِ وَالتَّفْسِيرِ لِقَوْلِهِ: فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى لِأَنَّ فَلْقَ الْحَبِّ وَالنَّوَى بِالنَّبَاتِ وَالشَّجَرِ النَّامِي مِنْ جِنْسِ إِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ، لِأَنَّ النَّامِيَ فِي حُكْمِ الْحَيَوَانِ. أَلَا تَرَى إلى قوله وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ، وَهُوَ أَنَّ لَفْظَ الْفِعْلِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ الْفَاعِلَ يَعْتَنِي بِذَلِكَ الْفِعْلِ فِي كُلِّ حِينٍ وَأَوَانٍ.
وَأَمَّا لَفْظُ الِاسْمِ فَإِنَّهُ لَا يُفِيدُ التَّجَدُّدَ وَالِاعْتِنَاءَ بِهِ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَضَرَبَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْقَاهِرِ الْجُرْجَانِيُّ لِهَذَا مَثَلًا فِي كِتَابِ «دَلَائِلِ الْإِعْجَازِ» فَقَالَ: قَوْلُهُ: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ إِنَّمَا ذَكَرَهُ بِلَفْظِ الْفِعْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ: يَرْزُقُكُمْ لِأَنَّ صِيغَةَ الْفِعْلِ تُفِيدُ أَنَّهُ تَعَالَى يَرْزُقُهُمْ حَالًا فَحَالًا وَسَاعَةً فَسَاعَةً. وَأَمَّا الِاسْمُ فَمِثَالُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ [الْكَهْفِ: ١٨] فَقَوْلُهُ: باسِطٌ يُفِيدُ الْبَقَاءَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ الْوَاحِدَةِ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْحَيُّ أَشْرَفُ مِنَ الْمَيِّتِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ الِاعْتِنَاءُ بِإِخْرَاجِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرَ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِإِخْرَاجِ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى وَقَعَ التَّعْبِيرُ عَنِ الْقَسَمِ الْأَوَّلِ بِصِيغَةِ الْفِعْلِ، وَعَنِ الثَّانِي بِصِيغَةِ الِاسْمِ، تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الِاعْتِنَاءَ بِإِيجَادِ الْحَيِّ مِنَ الْمَيِّتِ أَكْثَرُ وَأَكْمَلُ مِنَ الِاعْتِنَاءِ بِإِيجَادِ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ. واللَّه أَعْلَمُ بِمُرَادِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى فِي آخِرِ الْآيَةِ: ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ بَعْضُهُمْ مَعْنَاهُ: ذَلِكُمُ اللَّه الْمُدَبِّرُ الْخَالِقُ النَّافِعُ الضَّارُّ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فِي إِثْبَاتِ الْقَوْلِ بِعِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّكُمْ لَمَّا شَاهَدْتُمْ أَنَّهُ تَعَالَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ، وَمُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ، ثُمَّ شَاهَدْتُمْ أَنَّهُ أَخْرَجَ الْبَدَنَ الْحَيَّ مِنَ النُّطْفَةِ الْمَيِّتَةِ مَرَّةً وَاحِدَةً، فَكَيْفَ تَسْتَبْعِدُونَ أَنْ يُخْرِجَ الْبَدَنُ الْحَيَّ مِنْ مَيِّتِ التُّرَابِ الرَّمِيمِ مَرَّةً أُخْرَى؟ وَالْمَقْصُودُ الْإِنْكَارُ عَلَى تَكْذِيبِهِمْ بِالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ وَأَيْضًا الضِّدَّانِ مُتَسَاوِيَانِ فِي النِّسْبَةِ فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ الِانْقِلَابُ مِنْ أَحَدِ الضِّدَّيْنِ إِلَى الْآخَرِ، وَجَبَ أَنْ لَا يَمْتَنِعَ الِانْقِلَابُ مِنَ الثَّانِي إِلَى الْأَوَّلِ، فَكَمَا لَا يَمْتَنِعُ حُصُولُ الْمَوْتِ بَعْدَ الْحَيَاةِ. وَجَبَ أَيْضًا أَنْ لَا يَمْتَنِعَ حُصُولُ الْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَعَلَى كِلَا التَّقْدِيرَيْنِ فَيَخْرُجُ مِنْهُ جَوَازُ الْقَوْلِ بِالْبَعْثِ وَالْحَشْرِ وَالنَّشْرِ.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute