للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْإِنْسَانِ. ثُمَّ لَا يَزَالُ يَنْفَصِلُ عَنْ كُلِّ شُعْبَةٍ شُعَبٌ أُخَرُ، وَلَا تَزَالُ تَسْتَدِقُّ حَتَّى تَخْرُجَ عَنِ الْحِسِّ وَالْأَبْصَارِ بِسَبَبِ الصِّغَرِ، فَكَذَلِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ قَدْ يَنْفَصِلُ عَنْ ذَلِكَ الْخَطِّ الْكَبِيرِ الْوَسَطَانِيِّ خُطُوطٌ مُنْفَصِلَةٌ، وَعَنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا خُطُوطٌ مُخْتَلِفَةٌ أُخْرَى أَدَقُّ مِنَ الْأُولَى، وَلَا يَزَالُ يَبْقَى عَلَى هَذَا الْمَنْهَجِ حَتَّى تَخْرُجَ تِلْكَ الْخُطُوطُ عَنِ الْحِسِّ وَالْبَصَرِ وَالْخَالِقُ تَعَالَى إِنَّمَا فَعَلَ ذَلِكَ حَتَّى أَنَّ الْقُوَى الْجَاذِبَةَ الْمَرْكُوزَةَ فِي جِرْمِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ تَقْوَى عَلَى جَذْبِ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الْأَرْضِيَّةِ فِي تِلْكَ الْمَجَارِي الضَّيِّقَةِ، فَلَمَّا وَقَفْتُ عَلَى عِنَايَةِ الْخَالِقِ فِي إِيجَادِ تِلْكَ/ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَخْلِيقِ جُمْلَةِ تِلْكَ الشَّجَرَةِ أَكْمَلُ، وَعَرَفْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَكْوِينِ جُمْلَةِ النَّبَاتِ أَكْمَلُ.

ثُمَّ إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ جُمْلَةَ النَّبَاتِ لِمَصْلَحَةِ الْحَيَوَانِ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ بِتَخْلِيقِ الْحَيَوَانِ أَكْمَلُ، وَلَمَّا عَلِمْتَ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ تَخْلِيقِ جُمْلَةِ الْحَيَوَانَاتِ هُوَ الْإِنْسَانُ عَلِمْتَ أَنَّ عِنَايَتَهُ فِي تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ أَكْمَلُ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ النَّبَاتَ وَالْحَيَوَانَ فِي هَذَا الْعَالَمِ لِيَكُونَ غِذَاءً وَدَوَاءً لِلْإِنْسَانِ بِحَسَبِ جَسَدِهِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ تَخْلِيقِ الْإِنْسَانِ هُوَ الْمَعْرِفَةُ وَالْمَحَبَّةُ وَالْخِدْمَةُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ.

[الذَّارِيَاتِ: ٥٦] فَانْظُرْ أَيُّهَا الْمِسْكِينُ بِعَيْنِ رَأْسِكَ فِي تِلْكَ الْوَرَقَةِ الْوَاحِدَةِ مِنْ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، وَاعْرِفْ كَيْفِيَّةَ خِلْقَةِ تِلْكَ الْعُرُوقَ وَالْأَوْتَارَ فِيهَا، ثُمَّ انْتَقِلْ مِنْ مَرْتَبَةٍ إِلَى مَا فَوْقَهَا حَتَّى تَعْرِفَ أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَخِيرَ مِنْهَا حُصُولُ الْمَعْرِفَةِ وَالْمَحَبَّةِ فِي الْأَرْوَاحِ الْبَشَرِيَّةِ، فَحِينَئِذٍ يَنْفَتِحُ عَلَيْكَ بَابٌ مِنَ الْمُكَاشَفَاتِ لَا آخِرَ لَهَا، وَيَظْهَرُ لَكَ أَنَّ أَنْوَاعَ نِعَمِ اللَّه فِي حَقِّكَ غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، كَمَا قَالَ: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوها [إِبْرَاهِيمَ: ٣٤] وَكُلُّ ذَلِكَ إِنَّمَا ظَهَرَ مِنْ كَيْفِيَّةِ خِلْقَةِ تِلْكَ الْوَرَقَةِ مِنَ الْحَبَّةِ وَالنَّوَاةِ، فَهَذَا كَلَامٌ مُخْتَصَرٌ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوى وَمَتَّى وَقَفَ الْإِنْسَانُ عَلَيْهِ أَمْكَنَهُ تَفْرِيقُهَا وَتَشْعِيبُهَا إِلَى مَا لَا آخِرَ لَهُ، وَنَسْأَلُ اللَّه التَّوْفِيقَ وَالْهِدَايَةَ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ فَفِيهِ مَبَاحِثُ:

الْأَوَّلُ: أَنَّ الْحَيَّ اسْمٌ لِمَا يَكُونُ موصوفا بالحياة، والْمَيِّتِ اسْمٌ لِمَا كَانَ خَالِيًا عَنْ صِفَةِ الْحَيَاةِ فِيهِ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ: النَّبَاتُ لَا يَكُونُ حَيًّا.

إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَلِلنَّاسِ فِي تَفْسِيرِ هذا الْحَيَّ والْمَيِّتِ قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: حَمْلُ هَذَيْنِ اللَّفْظَيْنِ عَلَى الْحَقِيقَةِ. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْرِجُ مِنَ النُّطْفَةِ بَشَرًا حَيًّا، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنَ الْبَشَرِ الْحَيِّ نُطْفَةً مَيِّتَةً، وَكَذَلِكَ يُخْرِجُ مِنَ الْبَيْضَةِ فَرَوْجَةً حَيَّةً، ثُمَّ يُخْرِجُ مِنَ الدَّجَاجَةِ بَيْضَةً مَيِّتَةً، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ أَنَّ الْحَيَّ وَالْمَيِّتَ مُتَضَادَّانِ مُتَنَافِيَانِ، فَحُصُولُ الْمَثَلِ عَنِ الْمَثَلِ يُوهِمُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ. أَمَّا حُصُولُ الضِّدِّ مِنَ الضِّدِّ، فَيَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ بِسَبَبِ الطَّبِيعَةِ وَالْخَاصِّيَّةِ، بَلْ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِتَقْدِيرِ الْمُقَدِّرِ الْحَكِيمِ، وَالْمُدَبِّرِ الْعَلِيمِ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنْ يُحْمَلَ الْحَيَّ والْمَيِّتِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَعَلَى الْوُجُوهِ الْمَجَازِيَّةِ أَيْضًا، وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ: يُخْرِجُ النَّبَاتَ الْغَضَّ الطَّرِيَّ الْخَضِرَ مِنَ الْحَبِّ الْيَابِسِ وَيُخْرِجُ الْيَابِسَ مِنَ النَّبَاتِ الْحَيِّ النَّامِي. الثَّانِي: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يُخْرِجُ الْمُؤْمِنَ مِنَ الْكَافِرِ، كَمَا فِي حَقِّ إِبْرَاهِيمَ، وَالْكَافِرَ مِنَ الْمُؤْمِنِ/ كَمَا فِي حَقِّ وَلَدِ نُوحٍ، وَالْعَاصِيَ مِنَ الْمُطِيعِ، وَبِالْعَكْسِ. الثَّالِثُ: قَدْ يَصِيرُ بَعْضُ مَا يُقْطَعُ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يُوجِبُ الْمَضَرَّةَ سَبَبًا لِلنَّفْعِ الْعَظِيمِ، وَبِالْعَكْسِ. ذَكَرُوا فِي الطِّبِّ أَنَّ إِنْسَانًا سَقَوْهُ الْأَفْيُونَ الْكَثِيرَ فِي الشَّرَابِ لِأَجْلِ أَنْ

<<  <  ج: ص:  >  >>