فَلِأَجْلِ هَذَا الْإِشْكَالِ ذَكَرُوا وُجُوهًا، أَحَدُهَا: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ. الْمُرَادُ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ بِعِيسَى عَلَيْهِمَا السَّلَامُ مَعَ الْبَرَاءَةِ عَنْ أَبَاطِيلِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى مِثْلَ قُسِّ بْنِ سَاعِدَةَ، وَبَحِيرَى الرَّاهِبِ وَحَبِيبٍ النَّجَّارِ وَزَيْدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ نُفَيْلٍ وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ وَسَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ وَأَبِي ذَرٍّ الْغِفَارِيِّ وَوَفْدِ النَّجَاشِيِّ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا قَبْلَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ وَالَّذِينَ كَانُوا عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ الَّذِي لِلْيَهُودِ وَالَّذِينَ كَانُوا عَلَى الدِّينِ الْبَاطِلِ الَّذِي لِلنَّصَارَى كُلُّ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بَعْدَ مَبْعَثِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبِمُحَمَّدٍ فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ، وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ طَرِيقَةَ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ طَرِيقَةَ الْيَهُودِ، فَالْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا
هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللِّسَانِ دُونَ الْقَلْبِ وَهُمُ الْمُنَافِقُونَ، فَذَكَرَ الْمُنَافِقِينَ ثُمَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُبْطِلُونَ كُلُّ مَنْ أَتَى مِنْهُمْ بِالْإِيمَانِ الْحَقِيقِيِّ صَارَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ اللَّهِ وَهُوَ قَوْلُ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هُمُ الْمُؤْمِنُونَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْحَقِيقَةِ وَهُوَ عَائِدٌ إِلَى/ الْمَاضِي، ثُمَّ قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ يَقْتَضِي الْمُسْتَقْبَلَ فَالْمُرَادُ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْمَاضِي وَثَبَتُوا عَلَى ذَلِكَ وَاسْتَمَرُّوا عَلَيْهِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ وَهُوَ قَوْلُ الْمُتَكَلِّمِينَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هادُوا فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي اشْتِقَاقِهِ عَلَى وُجُوهٍ. أَحَدُهَا: إِنَّمَا سُمُّوا بِهِ حِينَ تَابُوا مِنْ عِبَادَةِ الْعِجْلِ وَقَالُوا: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ [الْأَعْرَافِ: ١٥٦] أَيْ تُبْنَا وَرَجَعْنَا، وَهُوَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَثَانِيهَا: سُمُّوا بِهِ لِأَنَّهُمْ نُسِبُوا إِلَى يَهُوذَا أَكْبَرِ وَلَدِ يَعْقُوبَ وَإِنَّمَا قَالَتِ الْعَرَبُ بِالدَّالِ لِلتَّعْرِيبِ، فَإِنَّ الْعَرَبَ إِذَا نَقَلُوا أَسْمَاءً مِنَ الْعَجَمِيَّةِ إِلَى لُغَتِهِمْ غَيَّرُوا بَعْضَ حُرُوفِهَا. وَثَالِثُهَا: قَالَ أَبُو عَمْرِو بْنُ الْعَلَاءِ: سُمُّوا بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ يَتَهَوَّدُونَ أَيْ يَتَحَرَّكُونَ عِنْدَ قِرَاءَةِ التَّوْرَاةِ، وَأَمَّا النَّصَارَى فَفِي اشْتِقَاقِ هَذَا الِاسْمِ وُجُوهٌ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْقَرْيَةَ الَّتِي كَانَ يَنْزِلُهَا عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ تُسَمَّى نَاصِرَةَ فَنُسِبُوا إِلَيْهَا وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَثَانِيهَا: لِتَنَاصُرِهِمْ فِيمَا بَيْنَهُمْ أَيْ لِنُصْرَةِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا. وَثَالِثُهَا: لِأَنَّ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ، قَالَ صَاحِبُ الْكَشَّافِ: النَّصَارَى جَمْعُ نَصْرَانَ يُقَالُ رَجُلٌ نَصْرَانُ، وَامْرَأَةٌ نَصْرَانَةٌ وَالْيَاءُ فِي نَصْرَانِيٍّ لِلْمُبَالَغَةِ كَالَّتِي فِي أَحَمَرِيٍّ لِأَنَّهُمْ نَصَرُوا الْمَسِيحَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالصَّابِئِينَ فَهُوَ مِنْ صَبَأَ إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ إِلَى دِينٍ آخَرَ، وَكَذَلِكَ كَانَتِ الْعَرَبُ يُسَمُّونَ النَّبِيَّ عَلَيْهِ السَّلَامُ صَابِئًا لِأَنَّهُ أَظْهَرَ دِينًا بِخِلَافِ أَدْيَانِهِمْ وَصَبَأَتِ النُّجُومُ إِذَا أُخْرِجَتْ مِنْ مَطْلَعِهَا. وَصَبَأْنَا بِهِ إِذَا خَرَجْنَا بِهِ، وَلِلْمُفَسِّرِينَ فِي تَفْسِيرِ مَذْهَبِهِمْ أَقْوَالٌ، أَحَدُهَا: قَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَسَنُ: هُمْ طَائِفَةٌ مِنَ الْمَجُوسِ وَالْيَهُودِ لَا تُؤْكَلُ ذَبَائِحُهُمْ وَلَا تُنْكَحُ نِسَاؤُهُمْ، وَثَانِيهَا: قَالَ قَتَادَةُ: هُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ وَيُصَلُّونَ إِلَى الشَّمْسِ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ صَلَوَاتٍ. وَقَالَ أَيْضًا: الْأَدْيَانُ خَمْسَةٌ مِنْهَا لِلشَّيْطَانِ أَرْبَعَةٌ وَوَاحِدٌ لِلرَّحْمَنِ: الصَّابِئُونَ وَهُمْ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَالْمَجُوسُ وَهُمْ يَعْبُدُونَ النَّارَ، وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا يَعْبُدُونَ الْأَوْثَانَ، وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَثَالِثُهَا: وَهُوَ الْأَقْرَبُ أَنَّهُمْ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْكَوَاكِبَ، ثُمَّ لَهُمْ قَوْلَانِ. الْأَوَّلُ: أَنَّ خَالِقَ الْعَالَمِ هُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ، إِلَّا أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِتَعْظِيمِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ وَاتِّخَاذِهَا قِبْلَةً لِلصَّلَاةِ وَالدُّعَاءِ وَالتَّعْظِيمِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ خَلَقَ الْأَفْلَاكَ وَالْكَوَاكِبَ، ثُمَّ إِنَّ الْكَوَاكِبَ هِيَ الْمُدَبِّرَةُ لِمَا فِي هَذَا الْعَالَمِ مِنَ الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَالْخَالِقَةُ لَهَا فَيَجِبُ عَلَى الْبَشَرِ تَعْظِيمُهَا لِأَنَّهَا هِيَ الْآلِهَةُ الْمُدَبِّرَةُ لِهَذَا الْعَالَمِ ثُمَّ إِنَّهَا تَعْبُدُ اللَّهَ سُبْحَانَهُ، وَهَذَا الْمَذْهَبُ هُوَ الْقَوْلُ الْمَنْسُوبُ إِلَى الْكِلْدَانِيِّينَ الَّذِينَ جَاءَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ رَادًّا عَلَيْهِمْ وَمُبْطِلًا لِقَوْلِهِمْ، ثُمَّ إِنَّهُ سُبْحَانَهُ بَيَّنَ فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute