فَمُنِّي عَلَيْنَا بِالسَّلَامِ فَإِنَّمَا ... كَلَامُكِ يَاقُوتٌ وَدُرٌّ مُنَظَّمُ
وَمِنْهُ
قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَا مِنَ النَّاسِ أَحَدٌ أَمَنُّ عَلَيْنَا فِي صُحْبَتِهِ وَلَا ذَاتِ يَدِهِ مِنِ ابْنِ أَبِي قُحَافَةَ»
يُرِيدُ أَكْثَرَ إِنْعَامًا بِمَالِهِ، وَأَيْضًا اللَّهُ تَعَالَى يُوصَفُ بِأَنَّهُ مَنَّانٌ أَيْ مُنْعِمٌ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: فِي التَّفْسِيرِ الْمَنُّ النَّقْصُ مِنَ الْحَقِّ وَالْبَخْسُ لَهُ، قَالَ تَعَالَى: وَإِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ أَيْ غَيْرَ مَقْطُوعٍ وَغَيْرَ مَمْنُوعٍ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْمَوْتُ: مَنُونًا لِأَنَّهُ يُنْقِصُ الْأَعْمَارَ، وَيَقْطَعُ الْأَعْذَارَ: ومن هذا الباب المنة المذمومة، لأن يُنْقِصُ النِّعْمَةَ، وَيُكَدِّرُهَا، وَالْعَرَبُ يَمْتَدِحُونَ بِتَرْكِ الْمَنِّ بِالنِّعْمَةِ، قَالَ قَائِلَهُمْ:
زَادَ مَعْرُوفَكَ عِنْدِي عِظَمًا ... أَنَّهُ عِنْدِيَ مَسْتُورٌ حَقِيرُ
تَتَنَاسَاهُ كَأَنْ لَمْ تَأْتِهِ ... وَهْوَ فِي الْعَالَمِ مَشْهُورٌ كَثِيرُ
إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَنَقُولُ: الْمَنُّ هُوَ إِظْهَارُ الِاصْطِنَاعِ إِلَيْهِمْ، وَالْأَذَى شِكَايَتُهُ مِنْهُمْ بِسَبَبِ مَا أَعْطَاهُمْ وَإِنَّمَا كَانَ الْمَنُّ مَذْمُومًا لِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْفَقِيرَ الْآخِذَ لِلصَّدَقَةِ مُنْكَسِرُ الْقَلْبِ لِأَجْلِ حَاجَتِهِ إِلَى صَدَقَةٍ غَيْرُ مُعْتَرِفٍ بِالْيَدِ الْعُلْيَا لِلْمُعْطِي، فَإِذَا أَضَافَ الْمُعْطِي إِلَى ذَلِكَ إِظْهَارَ ذَلِكَ الْإِنْعَامِ، زَادَ ذَلِكَ فِي انْكِسَارِ قَلْبِهِ، فَيَكُونُ فِي حُكْمِ الْمَضَرَّةِ بَعْدَ الْمَنْفَعَةِ، وَفِي حُكْمِ الْمُسِيءِ إِلَيْهِ بَعْدَ أَنْ أَحْسَنَ إِلَيْهِ وَالثَّانِي: إِظْهَارُ الْمَنِّ يُبْعِدُ أَهْلَ الْحَاجَةِ عَنِ الرَّغْبَةِ فِي صَدَقَتِهِ إِذَا اشْتُهِرَ مِنْ طَرِيقِهِ ذَلِكَ الثَّالِثُ: أَنَّ الْمُعْطِيَ يَجِبُ أَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ هَذِهِ النِّعْمَةَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَأَنْ يَعْتَقِدَ أَنَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ نِعَمًا عَظِيمَةً حَيْثُ وَفَّقَهُ لِهَذَا الْعَمَلِ، وَأَنْ يَخَافَ أَنَّهُ هَلْ قَرَنَ بِهَذَا الْإِنْعَامِ مَا يُخْرِجُهُ عَنْ قَبُولِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ امْتَنَعَ أَنْ يَجْعَلَهُ مِنَّةً عَلَى الْغَيْرِ الرَّابِعُ: وَهُوَ السِّرُّ الْأَصْلِيُّ أَنَّهُ إِنْ عَلِمَ أَنَّ ذَلِكَ الْإِعْطَاءَ إِنَّمَا تَيَسَّرَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَيَّأَ لَهُ أَسْبَابَ الْإِعْطَاءِ وَأَزَالَ أَسْبَابَ الْمَنْعِ، وَمَتَى كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ كَانَ الْمُعْطِي هُوَ اللَّهَ فِي الْحَقِيقَةِ لَا الْعَبْدَ، فَالْعَبْدُ إِذَا كَانَ فِي هَذِهِ الدَّرَجَةِ كَانَ قَلْبُهُ مُسْتَنِيرًا بِنُورِ اللَّهِ تَعَالَى وَإِذَا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ بَلْ كَانَ مَشْغُولًا بِالْأَسْبَابِ الْجُسْمَانِيَّةِ الظَّاهِرَةِ وَكَانَ مَحْرُومًا عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقة فَكَانَ فِي دَرَجَةِ الْبَهَائِمِ الَّذِينَ لَا يَتَرَقَّى نَظَرُهُمْ عَنِ الْمَحْسُوسِ إِلَى الْمَعْقُولِ وَعَنِ الْآثَارِ إِلَى الْمُؤَثِّرِ، وَأَمَّا الْأَذَى فَقَدِ اخْتَلَفُوا فِيهِ، مِنْهُمْ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِي أَذَى الْمُؤْمِنِينَ وَلَيْسَ ذَلِكَ بِالْمَنِّ بَلْ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ مُخْتَصًّا بِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ وَهُوَ مِثْلُ أَنْ يَقُولَ لِلْفَقِيرِ: أَنْتَ أَبَدًا تَجِيئُنِي بِالْإِيلَامِ وَفَرَّجَ اللَّهُ عَنِّي مِنْكَ وَبَاعَدَ مَا بَيْنِي وَبَيْنَكَ، فَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَنَّ مَنْ أَنْفَقَ مَالَهُ ثُمَّ إِنَّهُ لَا يُتْبِعُهُ الْمَنَّ وَالْأَذَى فَلَهُ الْأَجْرُ الْعَظِيمُ وَالثَّوَابُ الْجَزِيلُ.
فَإِنْ قِيلَ: ظَاهِرُ اللَّفْظِ أَنَّهُمَا بِمَجْمُوعِهِمَا يُبْطِلَانِ الْأَجْرَ فَيَلْزَمُ أَنَّهُ لَوْ وُجِدَ أَحَدُهُمَا دُونَ الثَّانِي/ لَا يَبْطُلُ الْأَجْرُ.
قُلْنَا: بَلِ الشَّرْطُ أَنْ لَا يُوجَدَ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِأَنَّ قَوْلَهُ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذىً يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ مِنْهُ لَا هَذَا وَلَا ذَاكَ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْكَبَائِرَ تُحْبِطُ ثَوَابَ فَاعِلِهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ هَذَا الثَّوَابَ إِنَّمَا يَبْقَى إِذَا لَمْ يُوجَدِ الْمَنُّ وَالْأَذَى، لِأَنَّهُ لَوْ ثَبَتَ مَعَ فَقْدِهِمَا وَمَعَ وُجُودِهِمَا لَمْ يَكُنْ لِهَذَا الِاشْتِرَاطِ فَائِدَةٌ.
أَجَابَ أَصْحَابُنَا بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ أَنَّ حُصُولَ الْمَنِّ وَالْأَذَى يُخْرِجَانِ الْإِنْفَاقَ مِنْ أَنْ يَكُونَ فِيهِ أَجْرٌ وَثَوَابٌ