للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ذَلِكَ السَّارِقَ لَوْ لَمْ يَرْتَدَّ لَمْ يَصِرْ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، وَلَكِنَّهُ لَمَّا ارْتَدَّ وَأَشْرَكَ باللَّه صار محروما قطع عَنْ رَحْمَةِ اللَّه، ثُمَّ إِنَّهُ أَكَّدَ ذَلِكَ بِأَنْ شَرَحَ أَنَّ أَمْرَ الشِّرْكِ عَظِيمٌ عِنْدَ اللَّه فَقَالَ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً يَعْنِي وَمَنْ لَمْ يُشْرِكْ باللَّه لَمْ يَكُنْ ضَلَالُهُ بَعِيدًا، فَلَا جَرَمَ لَا يَصِيرُ مَحْرُومًا عَنْ رَحْمَتِي، وَهَذِهِ الْمُنَاسَبَاتُ دَالَّةٌ قَطْعًا عَلَى دَلَالَةِ هَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ مَا سِوَى الشِّرْكِ مَغْفُورٌ قَطْعًا سَوَاءٌ حَصَلَتِ التَّوْبَةُ أَوْ لَمْ تَحْصُلْ، ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ كَوْنَ الشِّرْكِ ضَلَالًا بَعِيدًا فَقَالَ إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً لَعَنَهُ اللَّهُ

(إن) هاهنا مَعْنَاهُ النَّفْيُ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ [النساء: ١٥٩] ويَدْعُونَ بِمَعْنَى يَعْبُدُونَ لِأَنَّ مَنْ عَبَدَ شَيْئًا فَإِنَّهُ يَدْعُوهُ عِنْدَ احْتِيَاجِهِ إِلَيْهِ، وَقَوْلُهُ إِلَّا إِناثاً فِيهِ أَقْوَالٌ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمُرَادَ هُوَ الْأَوْثَانُ وَكَانُوا يُسَمُّونَهَا بَاسْمِ الْإِنَاثِ كَقَوْلِهِمْ: اللَّاتُ وَالْعُزَّى وَمَنَاةُ الثَّالِثَةُ الْأُخْرَى، وَاللَّاتُ تَأْنِيثُ اللَّه، وَالْعُزَّى تَأْنِيثُ الْعَزِيزِ. قَالَ الْحَسَنُ: لَمْ يَكُنْ حَيٌّ مِنْ أَحْيَاءِ الْعَرَبِ إِلَّا وَلَهُمْ صَنَمٌ يَعْبُدُونَهُ وَيُسَمُّونَهُ أُنْثَى بَنِي فُلَانٍ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ هَذَا التَّأْوِيلِ قِرَاءَةُ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّه عَنْهَا: إِلَّا أَوْثَانًا، وَقِرَاءَةُ ابْنِ عَبَّاسٍ: إِلَّا أُثْنًا، جَمْعُ وَثَنٍ مِثْلَ أَسَدٍ وَأُسْدٍ، ثُمَّ أُبْدِلَتْ مِنَ الْوَاوِ الْمَضْمُومَةِ هَمْزَةً نَحْوَ قَوْلِهِ وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ [الْمُرْسَلَاتِ: ١١] قَالَ الزَّجَّاجُ:

وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ أُثُنٌ أَصْلُهَا أُثْنٌ، فَأَتْبَعَتِ الضَّمَّةُ الضَّمَّةَ.

الْقَوْلُ الثَّانِي: قَوْلُهُ إِلَّا إِناثاً أَيْ إِلَّا أَمْوَاتًا، وَفِي تَسْمِيَةِ الْأَمْوَاتِ إِنَاثًا وَجْهَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ الْإِخْبَارَ عَنِ الْمَوَاتِ يَكُونُ عَلَى صِيغَةِ الْإِخْبَارِ عَنِ الْأُنْثَى، تَقُولُ: هَذِهِ الْأَحْجَارُ تُعْجِبُنِي: كَمَا تَقُولُ: هَذِهِ الْمَرْأَةُ تُعْجِبُنِي.

الثَّانِي: أَنَّ الْأُنْثَى أَخَسُّ مِنَ الذَّكَرِ، وَالْمَيِّتُ أَخَسُّ مِنَ الْحَيِّ، فَلِهَذِهِ الْمُنَاسَبَةِ أَطْلَقُوا اسْمَ الْأُنْثَى عَلَى الْجَمَادَاتِ الْمَوَاتِ.

الْقَوْلُ الثَّالِثُ: أَنْ بَعْضَهُمْ كَانَ يَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ، وَكَانُوا يَقُولُونَ: الْمَلَائِكَةُ بَنَاتُ اللَّه قَالَ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى [النَّجْمِ: ٢٧] وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ هَلْ إِنْسَانٌ أَجْهَلُ مِمَّنْ أَشْرَكَ خَالِقَ السموات وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا جَمَادًا يُسَمِّيهِ بِالْأُنْثَى.

ثُمَّ قَالَ: وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: كَانَ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَوْثَانِ شَيْطَانٌ يَتَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ يُكَلِّمُهُمْ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: المراد بالشيطان هاهنا إِبْلِيسُ بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَلَا شَكَّ أَنَّ قَائِلَ هَذَا الْقَوْلِ هُوَ إِبْلِيسُ، وَلَا يَبْعُدُ أَنَّ الَّذِي تَرَاءَى لِلسَّدَنَةِ هُوَ إِبْلِيسُ، وَأَمَّا الْمَرِيدُ فَهُوَ الْمُبَالِغُ فِي الْعِصْيَانِ الْكَامِلِ فِي الْبُعْدِ مِنَ الطَّاعَةِ وَيُقَالُ لَهُ: مَارِدٌ وَمَرِيدٌ، قَالَ الزَّجَّاجُ:

يُقَالُ: حَائِطٌ مُمَرَّدٌ أَيْ مُمَلَّسٌ، وَيُقَالُ شَجَرَةٌ مَرْدَاءُ إِذَا تَنَاثَرَ وَرَقُهَا، وَالَّذِي لَمْ تَنْبُتْ لَهُ لِحْيَةٌ يُقَالُ لَهُ أَمْرَدٌ لِكَوْنِ مَوْضِعِ اللِّحْيَةِ أَمْلَسَ، فَمَنْ كَانَ شَدِيدَ الْبُعْدِ عَنِ الطَّاعَةِ يُقَالُ لَهُ مَرِيدٌ وَمَارِدٌ لِأَنَّهُ مُمَلَّسٌ عَنْ طَاعَةِ اللَّه لَمْ يَلْتَصِقْ بِهِ مِنْ هَذِهِ الطَّاعَةِ شَيْءٌ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ.

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» : قَوْلُهُ لَعَنَهُ اللَّهُ وَقالَ لَأَتَّخِذَنَّ صِفَتَانِ بِمَعْنَى شَيْطَانًا مَرِيدًا جَامِعًا بَيْنَ لَعْنَةِ اللَّه وَهَذَا الْقَوْلِ الشَّنِيعِ. واعلم أن الشيطان هاهنا قَدِ ادَّعَى أَشْيَاءَ: أَوَّلُهَا: قَوْلُهُ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً الْفَرْضُ فِي اللُّغَةِ الْقَطْعُ، وَالْفُرْضَةُ الثُّلْمَةُ الَّتِي تَكُونُ فِي طَرَفِ النَّهْرِ، وَالْفَرْضُ الْحَزُّ الَّذِي فِي الْوَتَرِ، وَالْفَرْضُ فِي الْقَوْسِ الْحَزُّ الَّذِي يُشَدُّ فِيهِ الْوَتَرُ، وَالْفَرِيضَةُ مَا فَرَضَ اللَّه عَلَى عِبَادِهِ وَجَعَلَهُ حَتْمًا عليهم

<<  <  ج: ص:  >  >>