هَذِهِ الْمَقَالَةَ كَانَتْ مَوْجُودَةً قَبْلَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلَى الْآنِ بَلْ أَكْثَرُ أَهْلِ الْعَالَمِ مُسْتَمِرُّونَ عَلَى هَذِهِ الْمَقَالَةِ. وَالدِّينُ وَالْمَذْهَبُ الَّذِي هَذَا شَأْنُهُ يَسْتَحِيلُ أَنْ يَكُونَ بِحَيْثُ يُعْرَفُ فَسَادُهُ بِالضَّرُورَةِ لَكِنَّ الْعِلْمَ بِأَنَّ هَذَا الْحَجَرَ الْمَنْحُوتَ فِي هَذِهِ السَّاعَةِ لَيْسَ هُوَ الَّذِي خَلَقَنِي وَخَلَقَ السموات وَالْأَرْضَ عِلْمٌ ضَرُورِيٌّ فَيَسْتَحِيلُ إِطْبَاقُ الْجَمْعِ الْعَظِيمِ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لِعَبَدَةِ الْأَوْثَانِ غَرَضٌ آخَرُ سِوَى ذَلِكَ وَالْعُلَمَاءُ ذَكَرُوا فِيهِ وُجُوهًا:
أَحَدُهَا: مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُنَجِّمُ الْبَلْخِيُّ فِي بَعْضِ مُصَنَّفَاتِهِ أَنَّ كَثِيرًا مِنْ أَهْلِ الصِّينِ وَالْهِنْدِ كَانُوا يَقُولُونَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَيَعْتَقِدُونَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جِسْمٌ وَذُو صُورَةٍ كَأَحْسَنِ مَا يَكُونُ مِنَ الصُّوَرِ، وَهَكَذَا حَالُ الْمَلَائِكَةِ أَيْضًا فِي صُوَرِهِمُ الْحَسَنَةِ: وَأَنَّهُمْ كُلُّهُمْ قَدِ احْتَجَبُوا عَنَّا بِالسَّمَاءِ وَأَنَّ الْوَاجِبَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَصُوغُوا تَمَاثِيلَ أَنِيقَةَ الْمَنْظَرِ حَسَنَةَ الرُّوَاءِ عَلَى الْهَيْئَةِ الَّتِي كَانُوا يَعْتَقِدُونَهَا مِنْ صُوَرِ الْإِلَهِ وَالْمَلَائِكَةِ، فَيَعْكُفُونَ عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ طَلَبَ الزُّلْفَى إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَمَلَائِكَتِهِ فَإِنْ صَحَّ مَا ذَكَرَهُ أَبُو مَعْشَرٍ فَالسَّبَبُ فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ اعْتِقَادُ الشَّبَهِ. وَثَانِيهَا: مَا ذَكَرَهُ أَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ وَهُوَ أَنَّ النَّاسَ رَأَوْا تَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ هَذَا الْعَالَمِ مَرْبُوطَةً بِتَغَيُّرَاتِ أَحْوَالِ الْكَوَاكِبِ فَإِنَّ بِحَسَبِ قُرْبِ الشَّمْسِ وَبُعْدِهَا عَنْ سَمْتِ الرَّأْسِ تَحْدُثُ الْفُصُولُ الْمُخْتَلِفَةُ وَالْأَحْوَالُ الْمُتَبَايِنَةُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ رَصَدُوا أَحْوَالَ سَائِرِ الْكَوَاكِبِ فَاعْتَقَدُوا ارْتِبَاطَ السَّعَادَةِ وَالنُّحُوسَةِ فِي الدُّنْيَا بِكَيْفِيَّةِ وُقُوعِهَا فِي طَوَالِعِ النَّاسِ فَلَمَّا اعْتَقَدُوا ذَلِكَ بَالَغُوا فِي تَعْظِيمِهَا، فَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا أَشْيَاءٌ وَاجِبَةُ الْوُجُودِ لِذَوَاتِهَا وَهِيَ الَّتِي خَلَقَتْ هَذِهِ الْعَوَالِمَ، وَمِنْهُمْ مَنِ اعْتَقَدَ أَنَّهَا مَخْلُوقَةٌ لِلْإِلَهِ الْأَكْبَرِ لَكِنَّهَا خَالِقَةٌ لِهَذَا الْعَالَمِ، فَالْأَوَّلُونَ/ اعْتَقَدُوا أَنَّهَا هِيَ الْإِلَهُ فِي الْحَقِيقَةِ وَالْفَرِيقُ الثَّانِي: أَنَّهَا هِيَ الْوَسَائِطُ بَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْبَشَرِ، فَلَا جَرَمَ اشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا وَالْخُضُوعِ لَهَا، ثُمَّ لَمَّا رَأَوُا الْكَوَاكِبَ مُسْتَتِرَةً فِي أَكْثَرِ الْأَوْقَاتِ عَنِ الْأَبْصَارِ اتَّخَذُوا لَهَا أَصْنَامًا وَأَقْبَلُوا عَلَى عِبَادَتِهَا قَاصِدِينَ بِتِلْكَ الْعِبَادَاتِ تِلْكَ الْأَجْرَامَ الْعَالِيَةَ، وَمُتَقَرِّبِينَ إِلَى أَشْبَاحِهَا الْغَائِبَةِ، ثُمَّ لَمَّا طَالَتِ الْمُدَّةُ أَلْغَوْا ذِكْرَ الْكَوَاكِبِ وَتَجَرَّدُوا لِعِبَادَةِ تِلْكَ التَّمَاثِيلِ، فَهَؤُلَاءِ فِي الْحَقِيقَةِ عَبَدَةُ الْكَوَاكِبِ.
وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَصْحَابَ الْأَحْكَامِ كَانُوا يُعَيِّنُونَ أَوْقَاتًا فِي السِّنِينَ الْمُتَطَاوِلَةِ نَحْوَ الْأَلْفِ وَالْأَلْفَيْنِ وَيَزْعُمُونَ أَنَّ مَنِ اتَّخَذَ طَلْسَمًا فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ عَلَى وَجْهٍ خَاصٍّ فَإِنَّهُ يَنْتَفِعُ بِهِ فِي أَحْوَالٍ مَخْصُوصَةٍ نَحْوَ السَّعَادَةِ وَالْخِصْبِ وَدَفْعِ الْآفَاتِ وَكَانُوا إِذَا اتَّخَذُوا ذَلِكَ الطَّلْسَمَ عَظَّمُوهُ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهِ فَلَمَّا بَالَغُوا فِي ذَلِكَ التَّعْظِيمِ صَارَ ذَلِكَ كَالْعِبَادَةِ وَلَمَّا طَالَتْ مُدَّةُ ذَلِكَ الْفِعْلِ نَسَوْا مَبْدَأَ الْأَمْرِ وَاشْتَغَلُوا بِعِبَادَتِهَا عَلَى الْجَهَالَةِ بِأَصْلِ الْأَمْرِ. وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ مَتَى مَاتَ مِنْهُمْ رَجُلٌ كَبِيرٌ يَعْتَقِدُونَ فِيهِ أَنَّهُ مُجَابُ الدَّعْوَةِ وَمَقْبُولُ الشَّفَاعَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى اتَّخَذُوا صَنَمًا عَلَى صُورَتِهِ يَعْبُدُونَهُ عَلَى اعْتِقَادِ أَنَّ ذَلِكَ الْإِنْسَانَ يَكُونُ شَفِيعًا لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا أَخْبَرُ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ بِهَذِهِ الْمَقَالَةِ فِي قَوْلِهِ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ [يُونُسَ: ١٨] وَخَامِسُهَا: لَعَلَّهُمُ اتَّخَذُوهَا مَحَارِيبَ لِصَلَوَاتِهِمْ وَطَاعَاتِهِمْ وَيَسْجُدُونَ إِلَيْهَا لَا لَهَا كَمَا أَنَّا نَسْجُدُ إِلَى الْقِبْلَةِ لَا لِلْقِبْلَةِ وَلَمَّا اسْتَمَرَّتْ هَذِهِ الْحَالَةُ ظَنَّ الْجُهَّالُ مِنَ الْقَوْمِ أَنَّهُ يَجِبُ عِبَادَتُهَا. وَسَادِسُهَا: لَعَلَّهُمْ كَانُوا مِنَ الْمُجَسِّمَةِ فَاعْتَقَدُوا جَوَازَ حُلُولِ الرَّبِّ فِيهَا فَعَبَدُوهَا عَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ، فَهَذِهِ هِيَ الْوُجُوهُ الَّتِي يُمْكِنُ حَمْلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ عَلَيْهَا حَتَّى لَيَصِيرَ بِحَيْثُ يُعْلَمُ بُطْلَانُهُ بِضَرُورَةِ الْعَقْلِ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: لَمَّا رَجَعَ حَاصِلُ مَذْهَبِ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ إِلَى هَذِهِ الْوُجُوهِ الَّتِي ذَكَرْتُمُوهَا فَمِنْ أَيْنَ يَلْزَمُ مِنْ إِثْبَاتِ خَالِقِ الْعَالَمِ أَنْ لَا يَجُوزَ عِبَادَةُ الْأَوْثَانِ؟ الْجَوَابُ قُلْنَا: إِنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا نَبَّهَ عَلَى كون الأرض
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute