الرَّفْعُ أَجْوَدُ، وَمَعْنَاهُ، لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ، وَالنَّصْبُ جَائِزٌ وَالْمَعْنَى: لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا كُنْتُمْ فِيهِ مِنَ الشَّرِكَةِ بَيْنَكُمْ. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ: هَذَا الِاسْمُ يُسْتَعْمَلُ عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ اسْمًا مُنْصَرِفًا كَالِافْتِرَاقِ، وَالْأَجْوَدُ أَنْ يَكُونَ ظَرْفًا وَالْمَرْفُوعُ فِي قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ بَيْنَكُمْ هُوَ الَّذِي كَانَ ظَرْفًا ثُمَّ اسْتُعْمِلَ اسْمًا، وَالدَّلِيلُ عَلَى جَوَازِ كَوْنِهِ اسْمًا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَمِنْ بَيْنِنا وَبَيْنِكَ حِجابٌ [فصلت: ٥] وهذا فِراقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ [الْكَهْفِ: ٧٨] فَلَمَّا اسْتُعْمِلَ اسْمًا فِي هَذِهِ الْمَوَاضِعِ جَازَ أَنْ يُسْنَدَ إِلَيْهِ الْفِعْلُ الَّذِي هُوَ تَقَطَّعَ فِي قَوْلِ مَنْ رَفَعَ. قَالَ: وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ هَذَا الْمَرْفُوعَ هُوَ الَّذِي اسْتُعْمِلَ ظَرْفًا أَنَّهُ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ ظَرْفٌ اتَّسَعَ فِيهِ أَوْ يَكُونَ الَّذِي هُوَ مَصْدَرٌ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: لَقَدْ/ تَقَطَّعَ افْتِرَاقُكُمْ وَهَذَا ضِدُّ الْمُرَادِ، لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْآيَةِ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ سَالِفُونَ عَلَيْهِ.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ جَازَ أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى الْوَصْلِ مَعَ أَنَّ أَصْلَهُ الِافْتِرَاقُ وَالتَّبَايُنُ؟
قُلْنَا: هَذَا اللَّفْظُ إِنَّمَا يُسْتَعْمَلُ فِي الشَّيْئَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا مُشَارَكَةٌ وَمُوَاصَلَةٌ مِنْ بَعْضِ الْوُجُوهِ، كَقَوْلِهِمْ بَيْنِي وَبَيْنَهُ شَرِكَةٌ، وَبَيْنِي وَبَيْنَهُ رَحِمٌ، فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَ اسْتِعْمَالُ هَذَا اللَّفْظِ فِي مَعْنَى الْوَصْلَةِ فَقَوْلُهُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ مَعْنَاهُ لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ. أَمَّا مَنْ قَرَأَ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ بِالنَّصْبِ فَوَجْهُهُ أَنَّهُ أَضْمَرَ الْفَاعِلَ وَالتَّقْدِيرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ وَصْلُكُمْ بَيْنَكُمْ وَقَالَ سِيبَوَيْهِ: إِنَّهُمْ قَالُوا إِذَا كَانَ غَدًا فَأْتِنِي وَالتَّقْدِيرُ: إِذَا كَانَ الرَّجَاءُ أَوِ الْبَلَاءُ غَدًا فَأْتِنِي، فَأَضْمَرَ لِدَلَالَةِ الْحَالِ. فَكَذَا هَاهُنَا. وَقَالَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: التَّقْدِيرُ: لَقَدْ تَقَطَّعَ مَا بَيْنَكُمْ. فَحُذِفَتْ لِوُضُوحِ مَعْنَاهَا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى قَانُونٍ شَرِيفٍ فِي مَعْرِفَةِ أَحْوَالِ الْقِيَامَةِ فَأَوَّلُهَا: أَنَّ النَّفْسَ الْإِنْسَانِيَّةَ إِنَّمَا تَعَلَّقَتْ بِهَذَا الْجَسَدِ آلَةً لَهُ فِي اكْتِسَابِ الْمَعَارِفِ الْحَقَّةِ وَالْأَخْلَاقِ الْفَاضِلَةِ فَإِذَا فَارَقَتِ النَّفْسُ الْجَسَدَ وَلَمْ يَحْصُلْ هَذَيْنِ الْمَطْلُوبَيْنِ الْبَتَّةَ عَظُمَتْ حَسَرَاتُهُ وَقَوِيَتْ آفَاتُهُ حَيْثُ وَجَدَ مِثْلَ هَذِهِ الْآلَةِ الشَّرِيفَةِ الَّتِي يُمْكِنُ اكْتِسَابُ السَّعَادَةِ الأبدية بها، ثم إنه ضعيفها وَأَبْطَلَهَا وَلَمْ يَنْتَفِعْ بِهَا الْبَتَّةَ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَلَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ [وَثَانِيهَا: أَنَّ هَذِهِ النَّفْسَ مَعَ أَنَّهَا لَمْ تَكْتَسِبْ بِهَذِهِ الْآلَةِ الْجَسَدَانِيَّةِ سَعَادَةً رُوحَانِيَّةً، وَكَمَالًا رُوحَانِيًّا، فَقَدْ عَمِلَتْ عَمَلًا آخَرَ أَرْدَأَ مِنَ الْأَوَّلِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا طُولَ الْعُمْرِ كَانَتْ فِي الرَّغْبَةِ فِي تَحْصِيلِ الْمَالِ وَالْجَاهِ وَفِي تَقْوِيَةِ الْعِشْقِ عَلَيْهَا، وَتَأْكِيدِ الْمَحَبَّةِ، وَفِي تَحْصِيلِهَا. وَالْإِنْسَانُ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَوَجِّهٌ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَهَذَا الْمِسْكِينُ قَلَبَ الْقَضِيَّةَ وَعَكَسَ الْقَضِيَّةَ وَأَخَذَ يَتَوَجَّهُ مِنَ الْمَقْصِدِ الرُّوحَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ وَنَسِيَ مَقْصِدَهُ وَاغْتَرَّ بِاللَّذَّاتِ الْجُسْمَانِيَّةِ، فَلَمَّا مَاتَ انْقَلَبَتِ الْقَضِيَّةُ شَاءَ أَمْ أَبَى تَوَجَّهَ مِنَ الْعَالَمِ الْجُسْمَانِيِّ إِلَى الْعَالَمِ الرُّوحَانِيِّ، فَبَقِيَتِ الْأَمْوَالُ الَّتِي اكْتَسَبَهَا وَأَفْنَى عُمْرَهُ فِي تَحْصِيلِهَا وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَالشَّيْءُ الَّذِي يَبْقَى وَرَاءَ ظَهْرِ الْإِنْسَانِ لَا يُمْكِنُهُ أَنْ يَنْتَفِعَ بِهِ، وَرُبَّمَا بَقِيَ مُنْقَطِعَ الْمَنْفَعَةِ مُعْوَجَّ الرَّقَبَةِ مُعْوَجَّ الرَّأْسِ بِسَبَبِ الْتِفَاتِهِ إِلَيْهَا مع الهجز عَنِ الِانْتِفَاعِ بِهَا، وَذَلِكَ يُوجِبُ نِهَايَةَ الْخَيْبَةِ وَالْغَمِّ وَالْحَسْرَةِ وَهُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَالٍ يَكْتَسِبُهُ الْإِنْسَانُ وَلَمْ يَصْرِفْهُ فِي مَصَارِفِ الْخَيْرَاتِ فَصِفَتُهُ هَذِهِ الَّتِي ذَكَرَهَا اللَّه تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ، أَمَّا إِذَا صَرَفَهَا إِلَى الْجِهَاتِ الْمُوجِبَةِ لِلتَّعْظِيمِ لِأَمْرِ اللَّه وَالشَّفَقَةِ عَلَى خَلْقِ اللَّه فَمَا تَرَكَ تِلْكَ الْأَمْوَالَ وَرَاءَ ظَهْرِهِ وَلَكِنَّهُ قَدَّمَهَا تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ [الْبَقَرَةِ: ١١٠] وَثَالِثُهَا: أَنَّ أُولَئِكَ الْمَسَاكِينَ أَتْعَبُوا أَنْفُسَهُمْ فِي نُصْرَةِ الْأَدْيَانِ الْبَاطِلَةِ، وَالْمَذَاهِبِ الْفَاسِدَةِ/ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يَنْتَفِعُونَ بِهَا عِنْدَ الْوُرُودِ فِي مَحْفِلِ الْقِيَامَةِ، فَإِذَا وَرَدُوهُ وَشَاهَدُوا مَا فِي
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute