وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ الْمَنْقُولُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ هُوَ الِاسْمُ الَّذِي كَانَ يُحْيِي بِهِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ الْمَوْتَى.
وَالْقَوْلُ الثَّالِثُ: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي مُسْلِمٍ: أَنَّ رُوحَ الْقُدُسِ الَّذِي أُيِّدَ بِهِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الرُّوحَ الطَّاهِرَةَ الَّتِي نَفَخَهَا اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ، وَأَبَانَهُ بِهَا عَنْ غَيْرِهِ مِمَّنْ خُلِقَ مِنِ اجْتِمَاعِ نُطْفَتَيِ الذَّكَرِ وَالْأُنْثَى.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: تَعَلُّقُ هَذِهِ بِمَا قَبْلَهَا هو أن الرسل بعد ما جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ، وَوَضَحَتْ لَهُمُ الدَّلَائِلُ وَالْبَرَاهِينُ، اخْتَلَفَتْ أَقْوَامُهُمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ تَقَاتَلُوا وَتَحَارَبُوا.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ كُلَّ الْحَوَادِثِ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَقَالُوا تَقْدِيرُ الْآيَةِ: وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ أَنْ لَا يَقْتَتِلُوا لَمْ يَقْتَتِلُوا، وَالْمَعْنَى أَنَّ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ لَازِمٌ لِمَشِيئَةِ عَدَمِ الِاقْتِتَالِ، وَعَدَمُ اللَّازِمِ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْمَلْزُومِ، فَحَيْثُ وُجِدَ الِاقْتِتَالُ عَلِمْنَا أَنَّ مَشِيئَةَ عَدَمِ الِاقْتِتَالِ مَفْقُودَةٌ، بَلْ كَانَ الْحَاصِلُ هُوَ مَشِيئَةَ الِاقْتِتَالِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ الِاقْتِتَالَ مَعْصِيَةٌ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ الْكُفْرَ وَالْإِيمَانَ وَالطَّاعَةَ وَالْعِصْيَانَ بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ وَمَشِيئَتِهِ، وَعَلَى أَنَّ قَتْلَ الْكُفَّارِ وَقِتَالَهُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ بِإِرَادَةِ اللَّهِ تَعَالَى.
وَأَمَّا الْمُعْتَزِلَةُ فَقَدْ أَجَابُوا عَنِ الِاسْتِدْلَالِ، وَقَالُوا: الْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ بَيَانُ أَنَّ الْكُفَّارَ إِذَا قَتَلُوا فَلَيْسَ ذَلِكَ بِغَلَبَةٍ مِنْهُمْ لِلَّهِ تَعَالَى وَهَذَا الْمَقْصُودُ يَحْصُلُ بِأَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى لَوْ شَاءَ لَأَهْلَكَهُمْ وَأَبَادَهُمْ أَوْ يُقَالُ: لَوْ شَاءَ لَسَلَبَ الْقُوَى وَالْقُدَرَ مِنْهُمْ أَوْ يُقَالُ: لَوْ شَاءَ لَمَنَعَهُمْ مِنَ الْقِتَالِ جَبْرًا وَقَسْرًا وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَوْلُهُ: وَلَوْ شاءَ اللَّهُ الْمُرَادُ مِنْهُ هَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الْمَشِيئَةِ، وَهَذَا كَمَا يُقَالُ: لَوْ شَاءَ الْإِمَامُ لَمْ يَعْبُدِ الْمَجُوسُ النَّارَ فِي مَمْلَكَتِهِ، وَلَمْ تَشْرَبِ النَّصَارَى الْخَمْرَ، وَالْمُرَادُ مِنْهُ الْمَشِيئَةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا، وَكَذَا هاهنا، ثُمَّ أَكَّدَ الْقَاضِي هَذِهِ الْأَجْوِبَةَ وَقَالَ: إِذَا كَانَتِ الْمَشِيئَةُ تَقَعُ عَلَى وُجُوهٍ وَتَنْتَفِي عَلَى وُجُوهٍ لَمْ يَكُنْ فِي الظَّاهِرِ دَلَالَةٌ عَلَى الْوَجْهِ الْمَخْصُوصِ، لَا سِيَّمَا وَهَذِهِ الْأَنْوَاعُ مِنَ الْمَشِيئَةِ مُتَبَايِنَةٌ مُتَنَافِيَةٌ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّ أَنْوَاعَ الْمَشِيئَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ وَتَبَايَنَتْ إِلَّا أَنَّهَا مُشْتَرِكَةٌ فِي عُمُومِ كَوْنِهَا مَشِيئَةً، وَالْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ هُوَ الْمَشِيئَةُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَشِيئَةٌ، لَا مِنْ حَيْثُ إِنَّهَا مَشِيئَةٌ خَاصَّةٌ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ هَذَا الْمُسَمَّى حَاصِلًا، وَتَخْصِيصُ الْمَشِيئَةِ بِمَشِيئَةٍ خَاصَّةٍ، وَهِيَ إِمَّا مَشِيئَةُ الْهَلَاكِ، أَوْ مَشِيئَةُ سَلْبِ الْقُوَى وَالْقُدَرِ، أَوْ مَشِيئَةُ الْقَهْرِ وَالْإِجْبَارِ، تَقْيِيدٌ لِلْمُطْلَقِ وَهُوَ غَيْرُ جَائِزٍ، وَكَمَا أَنَّ هَذَا التَّخْصِيصَ عَلَى خِلَافِ ظَاهِرِ اللَّفْظِ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ الدَّلِيلِ الْقَاطِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِذَا كَانَ عَالِمًا بِوُقُوعِ الِاقْتِتَالِ، وَالْعِلْمُ بِوُقُوعِ الِاقْتِتَالِ حَالَ عَدَمِ وُقُوعِ الِاقْتِتَالِ جَمْعٌ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ، وَبَيْنَ السَّلْبِ وَالْإِيجَابِ، فَحَالُ حُصُولِ الْعِلْمِ بِوُجُودِ الِاقْتِتَالِ لَوْ أَرَادَ عَدَمَ الِاقْتِتَالِ لَكَانَ قَدْ أَرَادَ الْجَمْعَ بَيْنَ النَّفْيِ وَالْإِثْبَاتِ وَذَلِكَ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ ظَاهِرَ الْآيَةِ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِمْ، وَالْبُرْهَانُ الْقَاطِعُ عَلَى ضِدِّ قَوْلِهِمْ وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
ثُمَّ قَالَ: وَلكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي أَوَّلِ الْآيَةِ أَنَّ الْمَعْنَى: وَلَوْ شَاءَ لَمْ يَخْتَلِفُوا، وَإِذَا لَمْ يَخْتَلِفُوا لَمْ يَقْتَتِلُوا، وَإِذَا اخْتَلَفُوا فَلَا جَرَمَ اقْتَتَلُوا، وَهَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِعْلَ لَا يَقَعُ إِلَّا بَعْدَ حُصُولِ الدَّاعِي، لِأَنَّهُ بَيَّنَ أَنَّ الِاخْتِلَافَ يَسْتَلْزِمُ التَّقَاتُلَ، وَالْمَعْنَى أَنَّ اخْتِلَافَهُمْ فِي الدِّينِ يَدْعُوهُمْ إِلَى الْمُقَاتَلَةِ،
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute