عَلَى أَنَّهُ لَا يَحْرُمُ عَلِمْنَا أَنَّ مَا ذَكَرْتُمْ مِنِ اسْتِيفَاءِ الزِّيَادَةِ غَيْرُ مَمْنُوعٍ مِنْهُ شَرْعًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ قَوْلَهُ وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها يَقْتَضِي وُجُوبَ رِعَايَةِ الْمُمَاثَلَةِ مُطْلَقًا فِي كُلِّ الْأَحْوَالِ إِلَّا فِيمَا خَصَّهُ الدَّلِيلُ، وَالْفُقَهَاءُ أَدْخَلُوا التَّخْصِيصَ فِيهِ فِي صُوَرٍ كَثِيرَةٍ فَتَارَةً بِنَاءً عَلَى نَصٍّ آخَرَ أَخَسَّ مِنْهُ وَأُخْرَى بِنَاءً عَلَى الْقِيَاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مَنِ ادَّعَى التَّخْصِيصَ فَعَلَيْهِ الْبَيَانُ وَالْمُكَلَّفُ يَكْفِيهِ أَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَذَا النَّصِّ فِي جَمِيعِ الْمَطَالِبِ، قَالَ مُجَاهِدٌ وَالسُّدِّيُّ إِذَا قَالَ لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، فَلْيَقُلْ لَهُ أَخْزَاهُ اللَّهُ، أَمَّا إِذَا قَذَفَهُ قَذْفًا يُوجِبُ الْحَدَّ فَلَيْسَ لَهُ ذَلِكَ بَلِ الْحَدُّ الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ بِهِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ خَصْمِهِ بِالْعَفْوِ وَالْإِغْضَاءِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ [فُصِّلَتْ: ٣٤] ، فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَهُوَ وَعْدٌ مُبْهَمٌ لَا يُقَاسُ أَمْرُهُ فِي التَّعْظِيمِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ وَفِيهِ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الْمَجْنِيَّ عَلَيْهِ لَا يَجُوزُ لَهُ اسْتِيفَاءُ الزِّيَادَةِ مِنَ الظَّالِمِ لِأَنَّ الظَّالِمَ فِيمَا وَرَاءَ ظُلْمِهِ مَعْصُومٌ وَالِانْتِصَارُ لَا يَكَادُ يَؤْمَنُ فِيهِ تَجَاوُزُ التَّسْوِيَةِ وَالتَّعَدِّي خُصُوصًا فِي حَالِ الْحَرْبِ وَالْتِهَابِ الْحَمِيَّةِ، فَرُبَّمَا صَارَ الْمَظْلُومُ عِنْدَ الْإِقْدَامِ عَلَى اسْتِيفَاءِ الْقِصَاصِ ظَالِمًا،
وَعَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ نَادَى مُنَادٍ مَنْ كَانَ لَهُ عَلَى اللَّهِ أَجْرٌ فَلْيَقُمْ، قَالَ فَيَقُومُ خُلُقٌ فَيُقَالُ لَهُمْ مَا أَجْرُكُمْ عَلَى اللَّهِ؟ فَيَقُولُونَ نَحْنُ الَّذِينَ عَفَوْنَا عَمَّنْ ظَلَمَنَا، فَيُقَالُ لَهُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِإِذْنِ اللَّهِ تَعَالَى»
الثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا حَثَّ عَلَى الْعَفْوِ عَنِ الظَّالِمِ أَخْبَرَ أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يُحِبُّهُ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّهُ إِذَا كَانَ لَا يُحِبُّهُ ومع ذلك فإنه يندب إلى عَفْوِهِ، فَالْمُؤْمِنُ الَّذِي هُوَ حَبِيبُ اللَّهِ بِسَبَبِ إِيمَانِهِ أَوْلَى أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُ.
ثُمَّ قَالَ تعالى: وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ أي ظالم الظَّالِمِ إِيَّاهُ، وَهَذَا مِنْ بَابِ إِضَافَةِ الْمَصْدَرِ إِلَى الْمَفْعُولِ فَأُولئِكَ يَعْنِي الْمُنْتَصِرِينَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ كَعُقُوبَةٍ وَمُؤَاخَذَةٍ لِأَنَّهُمْ أَتَوْا بِمَا أُبِيحَ لَهُمْ مِنَ الِانْتِصَارِ وَاحْتَجَّ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ سِرَايَةَ الْقَوَدِ مُهْدَرَةٌ، فَقَالَ الشَّرْعُ إِمَّا أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَطْعِ مُطْلَقًا أَوْ بِشَرْطِ أَنْ لَا يَحْصُلَ مِنْهُ السَّرَيَانُ، وَهَذَا الثَّانِي بَاطِلٌ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْقَطْعِ الْحُرْمَةُ، فَإِذَا كَانَ تَجْوِيزُهُ مُعَلَّقًا بِشَرْطِ عَدَمِ السَّرَيَانِ، وَكَانَ هَذَا الشَّرْطُ مَجْهُولًا وَجَبَ أَنْ يَبْقَى ذَلِكَ الْقَطْعُ عَلَى أَصْلِ الْحُرْمَةِ، لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهَا هُوَ الْحُرْمَةُ، وَالْحِلُّ إِنَّمَا يَحْصُلُ مُعَلَّقًا عَلَى شَرْطٍ مَجْهُولٍ فَوَجَبَ أَنْ يبقى ذلك أَصْلِ الْحُرْمَةِ، وَحَيْثُ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الشَّرْعَ أَذِنَ لَهُ فِي الْقَطْعِ كَيْفَ كَانَ سَوَاءٌ سَرَى أَوْ لَمْ يَسْرِ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَجَبَ أَنْ لَا يَكُونَ ذَلِكَ السَّرَيَانُ مَضْمُونًا لِأَنَّهُ قَدِ انْتَصَرَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَحْصُلَ لِأَحَدٍ عَلَيْهِ سَبِيلٌ.
ثُمَّ قَالَ: إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ أَيْ يَبْدَءُونَ بِالظُّلْمِ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ وَالْمَعْنَى وَلَمَنْ صَبَرَ بِأَنْ لَا يَقْتَصَّ وَغَفَرَ وَتَجَاوَزَ فَإِنَّ ذلِكَ الصبر والتجاوز لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ يَعْنِي أَنَّ عَزْمَهُ عَلَى تَرْكِ الِانْتِصَارِ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ الْجَيِّدَةِ وَحُذِفَ الرَّاجِعُ لِأَنَّهُ مَفْهُومٌ كَمَا حُذِفَ مِنْ قَوْلِهِمُ السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ وَيُحْكَى أَنَّ رَجُلًا سَبَّ رَجُلًا فِي مَجْلِسِ الْحَسَنِ فَكَانَ الْمَسْبُوبُ يَكْظِمُ وَيَعْرَقُ فَيَمْسَحُ الْعَرَقَ ثُمَّ قَامَ وَتَلَا هَذِهِ الْآيَةَ، فَقَالَ الْحَسَنُ عَقَلَهَا وَاللَّهِ وَفَهِمَهَا لَمَّا ضَيَّعَهَا الجاهلون.