عَلَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمْرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ وَمَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَالْقَطْعِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، إِذْ لَوْ لَمْ يَكُنْ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ كَانَ بِتَقْدِيرِ إِقْدَامِهِ عَلَى الْخَطَأِ يَكُونُ قَدْ أَمَرَ اللَّه بِمُتَابَعَتِهِ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَمْرًا بِفِعْلِ ذَلِكَ الْخَطَأِ وَالْخَطَأُ لِكَوْنِهِ خَطَأً مَنْهِيٌّ عَنْهُ، فَهَذَا يُفْضِي إِلَى اجْتِمَاعِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ فِي الْفِعْلِ الْوَاحِدِ بِالِاعْتِبَارِ الْوَاحِدِ، وَإِنَّهُ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ، وَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَنْ أَمَرَ اللَّه بِطَاعَتِهِ عَلَى سَبِيلِ الْجَزْمِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا عَنِ الْخَطَأِ، فَثَبَتَ قَطْعًا أَنَّ أُولِي الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ مَعْصُومًا، ثُمَّ نَقُولُ: ذَلِكَ الْمَعْصُومُ إِمَّا مَجْمُوعُ الْأُمَّةِ أَوْ بَعْضُ الْأُمَّةِ، لَا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ بَعْضَ الْأُمَّةِ، لِأَنَّا بَيَّنَّا أَنَّ اللَّه تَعَالَى أَوْجَبَ طَاعَةَ أُولِي الْأَمْرِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ قَطْعًا، وَإِيجَابُ طَاعَتِهِمْ قَطْعًا مَشْرُوطٌ بِكَوْنِنَا عَارِفِينَ بِهِمْ قَادِرِينَ عَلَى الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ وَالِاسْتِفَادَةِ مِنْهُمْ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّا فِي زَمَانِنَا هَذَا عَاجِزُونَ عَنْ مَعْرِفَةِ الْإِمَامِ الْمَعْصُومِ، عَاجِزُونَ عَنِ الْوُصُولِ إِلَيْهِمْ، عَاجِزُونَ عَنِ اسْتِفَادَةِ الدِّينِ وَالْعِلْمِ مِنْهُمْ، وَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْصُومَ الَّذِي أَمَرَ اللَّه الْمُؤْمِنِينَ بِطَاعَتِهِ لَيْسَ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ الْأُمَّةِ، وَلَا طَائِفَةً مِنْ طَوَائِفِهِمْ. وَلَمَّا بَطَلَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ الْمَعْصُومُ الَّذِي هُوَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ:
وَأُولِي الْأَمْرِ أَهْلَ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَذَلِكَ يُوجِبُ الْقَطْعَ بِأَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا فِي أُولِي الْأَمْرِ وُجُوهًا أُخْرَى سِوَى مَا ذَكَرْتُمْ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ أُولِي الْأَمْرِ الْخُلَفَاءُ الرَّاشِدُونَ، وَالثَّانِي: الْمُرَادُ أُمَرَاءُ السَّرَايَا،
قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللَّه بْنِ حُذَافَةَ السَّهْمِيِّ إِذْ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ.
وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي خَالِدِ بْنِ الْوَلِيدِ بَعَثَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمِيرًا عَلَى سَرِيَّةٍ وَفِيهَا عَمَّارُ بْنُ يَاسِرٍ،
فَجَرَى بَيْنَهُمَا اخْتِلَافٌ فِي شَيْءٍ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمَرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ.
وَثَالِثُهَا: الْمُرَادُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ يُفْتُونَ فِي الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ وَيُعَلِّمُونَ النَّاسَ دِينَهُمْ، وَهَذَا رِوَايَةُ الثَّعْلَبِيِّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَوْلُ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَاكِ. وَرَابِعُهَا: نُقِلَ عَنِ الرَّوَافِضِ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْمَعْصُومُونَ، وَلَمَّا كَانَتْ أَقْوَالُ الْأُمَّةِ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَحْصُورَةً فِي هَذِهِ الْوُجُوهِ، وَكَانَ الْقَوْلُ الَّذِي نَصَرْتُمُوهُ خَارِجًا عَنْهَا كَانَ ذَلِكَ بِإِجْمَاعِ الْأُمَّةِ بَاطِلًا.
السُّؤَالُ الثَّانِي: أَنْ نَقُولَ: حَمْلُ أُولِي الْأَمْرِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى مِمَّا ذَكَرْتُمْ. وَيَدُلُّ عَلَيْهِ وُجُوهٌ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ الْأُمَرَاءَ وَالسَّلَاطِينَ أَوَامِرُهُمْ نَافِذَةٌ عَلَى الْخَلْقِ، فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ أُولُو الْأَمْرِ/ أَمَّا أَهْلُ الْإِجْمَاعِ فَلَيْسَ لَهُمْ أَمْرٌ نَافِذٌ عَلَى الْخَلْقِ، فَكَانَ حَمْلُ اللَّفْظِ عَلَى الْأُمَرَاءِ وَالسَّلَاطِينِ أَوْلَى. وَالثَّانِي: أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَآخِرَهَا يُنَاسِبُ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَمَّا أَوَّلُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ الْحُكَّامَ بِأَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَبِرِعَايَةِ الْعَدْلِ، وَأَمَّا آخِرُ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِالرَّدِّ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا أُشْكِلَ، وَهَذَا إِنَّمَا يَلِيقُ بِالْأُمَرَاءِ لَا بِأَهْلِ الْإِجْمَاعِ. الثَّالِثُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَالَغَ فِي التَّرْغِيبِ فِي طَاعَةِ الْأُمَرَاءِ،
فَقَالَ: «مَنْ أَطَاعَنِي فَقَدْ أَطَاعَ اللَّه وَمَنْ أَطَاعَ أَمِيرِي فَقَدْ أَطَاعَنِي وَمَنْ عَصَانِي فَقَدْ عَصَى اللَّه وَمَنْ عَصَى أَمِيرِي فَقَدْ عَصَانِي»
فَهَذَا مَا يُمْكِنُ ذِكْرُهُ مِنَ السُّؤَالِ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ.
وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا نِزَاعَ أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ حَمَلُوا قَوْلَهُ: وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ عَلَى الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا قُلْنَا: الْمُرَادُ مِنْهُ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ مِنْ أَهْلِ الْعَقْدِ وَالْحَلِّ لَمْ يَكُنْ هَذَا قَوْلًا خَارِجًا عَنْ أَقْوَالِ الْأُمَّةِ، بَلْ كَانَ هَذَا اخْتِيَارًا لِأَحَدِ أَقْوَالِهِمْ وَتَصْحِيحًا لَهُ بِالْحُجَّةِ الْقَاطِعَةِ، فَانْدَفَعَ السُّؤَالُ الْأَوَّلُ: وَأَمَّا سُؤَالُهُمُ الثَّانِي فَهُوَ مَدْفُوعٌ، لِأَنَّ الْوُجُوهَ الَّتِي ذَكَرُوهَا وُجُوهٌ ضَعِيفَةٌ، وَالَّذِي ذَكَرْنَاهُ بُرْهَانٌ قَاطِعٌ، فَكَانَ قَوْلُنَا أَوْلَى، عَلَى أَنَّا نُعَارِضُ تِلْكَ الْوُجُوهَ