للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ

إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا [المائدة: ٤٤] وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ الْعَدْلِ الْآيَاتُ الْوَارِدَةُ فِي مَذَمَّةِ الظُّلْمِ قَالَ تَعَالَى: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْواجَهُمْ [الصَّافَّاتِ: ٢٢]

وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «يُنَادِي مُنَادٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَيْنَ الظَّلَمَةُ وَأَيْنَ أَعْوَانُ الظَّلَمَةِ، فَيُجْمَعُونَ كُلُّهُمْ حَتَّى مَنْ بَرَى لهم قلما أو لا ق لَهُمْ دَوَاةً فَيُجْمَعُونَ وَيُلْقَوْنَ فِي النَّارِ»

وَقَالَ أَيْضًا: وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ [إِبْرَاهِيمَ: ٤٢] وَقَالَ: فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا [النَّمْلِ: ٥٢] .

فَإِنْ قِيلَ: الْغَرَضُ مِنَ الظُّلْمِ مَنْفَعَةُ الدُّنْيَا.

فَأَجَابَ اللَّه عَنِ السُّؤَالِ بِقَوْلِهِ: لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ [الْقَصَصِ: ٥٨] .

الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: يَنْبَغِي لِلْقَاضِي أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَ الْخَصْمَيْنِ فِي خَمْسَةِ أَشْيَاءَ: فِي الدُّخُولِ عَلَيْهِ، وَالْجُلُوسِ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهِمَا، وَالِاسْتِمَاعِ مِنْهُمَا، وَالْحُكْمِ عَلَيْهِمَا قَالَ: وَالْمَأْخُوذُ عَلَيْهِ التَّسْوِيَةُ بَيْنَهُمَا فِي الْأَفْعَالِ دُونَ الْقَلْبِ، فَإِنْ كَانَ يَمِيلُ قَلْبُهُ إِلَى أَحَدِهِمَا وَيُحِبُّ أَنْ يَغْلِبَ بِحُجَّتِهِ عَلَى الْآخَرِ فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ. قَالَ: وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُلَقِّنَ وَاحِدًا مِنْهُمَا حُجَّتَهُ، وَلَا شَاهِدًا شَهَادَتَهُ لِأَنَّ ذَلِكَ يَضُرُّ بِأَحَدِ الْخَصْمَيْنِ، وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعِي الدَّعْوَى وَالِاسْتِحْلَافَ، وَلَا يُلَقِّنُ الْمُدَّعَى عَلَيْهِ الْإِنْكَارَ وَالْإِقْرَارَ، وَلَا يُلَقِّنُ الشُّهُودَ أَنْ يَشْهَدُوا أَوْ لَا يَشْهَدُوا، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَضِيفَ أَحَدَ الْخَصْمَيْنِ دُونَ الْآخَرِ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكْسِرُ قَلْبَ الْآخَرِ، وَلَا يُجِيبُ هُوَ إِلَى ضِيَافَةِ أَحَدِهِمَا، وَلَا إِلَى ضِيَافَتِهِمَا مَا دَامَا مُتَخَاصِمَيْنِ.

وَرُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لَا يَضِيفُ الْخَصْمَ إِلَّا وَخَصْمُهُ مَعَهُ.

وَتَمَامُ الْكَلَامِ فِيهِ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْفِقْهِ، وَحَاصِلُ الْأَمْرِ فِيهِ أَنْ يَكُونَ مَقْصُودُ الْحَاكِمِ بِحُكْمِهِ إِيصَالَ الْحَقِّ إِلَى مُسْتَحِقِّهِ، وَأَنْ لَا يَمْتَزِجَ ذَلِكَ بِغَرَضٍ آخَرَ، وَذَلِكَ هُوَ المراد بقوله تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ.

الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ كَالتَّصْرِيحِ بِأَنَّهُ لَيْسَ لِجَمِيعِ النَّاسِ أَنْ يَشْرَعُوا فِي الْحُكْمِ، بَلْ ذَلِكَ لِبَعْضِهِمْ، ثُمَّ بَقِيَتِ الْآيَةُ مُجْمَلَةً فِي أَنَّهُ بِأَيِّ طَرِيقٍ يَصِيرُ حَاكِمًا وَلَمَّا دَلَّتْ سَائِرُ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلْأُمَّةِ مِنَ الْإِمَامِ الْأَعْظَمِ، وَأَنَّهُ هُوَ الَّذِي يُنَصِّبُ الْقُضَاةَ وَالْوُلَاةَ فِي الْبِلَادِ، صَارَتْ تِلْكَ الدَّلَائِلُ كَالْبَيَانِ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنَ الْإِجْمَالِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أَيْ نِعْمَ شَيْءٌ يَعِظُكُمْ بِهِ، أَوْ نِعْمَ الَّذِي يَعِظُكُمْ بِهِ، وَالْمَخْصُوصُ بِالْمَدْحِ مَحْذُوفٌ، أَيْ نِعْمَ شَيْءٌ يَعِظُكُمْ بِهِ ذَاكَ، وَهُوَ المأمور به مِنْ أَدَاءِ الْأَمَانَاتِ وَالْحُكْمِ بِالْعَدْلِ.

ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أي اعلموا بِأَمْرِ اللَّه وَوَعْظِهِ فَإِنَّهُ أَعْلَمُ بِالْمَسْمُوعَاتِ وَالْمُبْصَرَاتِ يُجَازِيكُمْ عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْكُمْ، وَفِيهِ دَقِيقَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَاتِ بِالْحُكْمِ عَلَى سَبِيلِ الْعَدْلِ وَبِأَدَاءِ الْأَمَانَةِ قَالَ: إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً أَيْ إِذَا حَكَمْتَ بِالْعَدْلِ فَهُوَ سُمَيْعٌ لِكُلِّ الْمَسْمُوعَاتِ يَسْمَعُ ذَلِكَ الْحُكْمَ، وَإِنْ أَدَّيْتَ الْأَمَانَةَ فَهُوَ بَصِيرٌ لِكُلِّ الْمُبْصَرَاتِ يُبْصِرُ ذَلِكَ، وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا أَعْظَمُ أَسْبَابِ الْوَعْدِ لِلْمُطِيعِ، وَأَعْظَمُ أَسْبَابِ الْوَعِيدِ لِلْعَاصِي، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «اعْبُدِ اللَّه كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ»

وَفِيهِ دقيقة أخرى، وهي أن كُلَّمَا كَانَ احْتِيَاجُ الْعَبْدِ أَشَدَّ كَانَتْ عِنَايَةُ اللَّه أَكْمَلَ، وَالْقُضَاةُ وَالْوُلَاةُ قَدْ فَوَّضَ اللَّه إِلَى أَحْكَامِهِمْ مَصَالِحَ الْعِبَادِ، فَكَانَ الِاهْتِمَامُ بِحُكْمِهِمْ وَقَضَائِهِمْ أَشَدَّ، فَهُوَ سُبْحَانَهُ مُنَزَّهٌ عَنِ

<<  <  ج: ص:  >  >>