للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. وَعَنْ بَعْضِ السَّلَفِ أَنَّهَا مَضْمُونَةٌ، رَوَى الشَّعْبِيُّ عَنْ أَنَسٍ قَالَ: اسْتَحْمَلَنِي رَجُلٌ بِضَاعَةً فَضَاعَتْ مِنْ بَيْنِ ثِيَابِي، فَضَمِنَنِي عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ. وَعَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ لِإِنْسَانٍ عِنْدِي وَدِيعَةٌ سِتَّةُ آلَافِ دِرْهَمٍ فَذَهَبَتْ، فَقَالَ عُمَرُ: ذَهَبَ لَكَ مَعَهَا شَيْءٌ؟ قُلْتُ لَا، فَأَلْزَمَنِي الضَّمَانَ، وَحُجَّةُ الْقَوْلِ الْمَشْهُورِ مَا

رَوَى عَمْرُو بْنُ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ/ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا ضَمَانَ عَلَى رَاعٍ وَلَا عَلَى مُؤْتَمَنٍ»

وَأَمَّا فِعْلُ عُمَرَ فَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّ الْمُودِعَ اعْتَرَفَ بِفِعْلٍ يُوجِبُ الضَّمَانَ.

الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ: قَالَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: الْعَارِيَّةُ مَضْمُونَةٌ بَعْدَ الْهَلَاكِ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ: غَيْرُ مَضْمُونَةٍ. حُجَّةُ الشَّافِعِيِّ قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَظَاهِرُ الْأَمْرِ لِلْوُجُوبِ، وَبَعْدَ هَلَاكِهَا تَعَذَّرَ رَدُّهَا بِصُورَتِهَا، وَرَدُّ ضَمَانِهَا رَدُّهَا بِمَعْنَاهَا، فَكَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ التَّضْمِينِ. وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «عَلَى الْيَدِ مَا أَخَذَتْ حَتَّى تُؤَدِّيَهُ»

أَقْصَى مَا فِي الْبَابِ أَنَّ الْآيَةَ مَخْصُوصَةٌ فِي الْوَدِيعَةِ، لَكِنَّ الْعَامَّ بَعْدَ التَّخْصِيصِ حُجَّةٌ، وَأَيْضًا فَلِأَنَّا أَجْمَعْنَا عَلَى أَنَّ الْمُسْتَامَ مَضْمُونٌ، وَأَنَّ الْمُودَعَ غَيْرُ مَضْمُونٍ، وَالْعَارِيَّةَ وَقَعَتْ فِي الْبَيْنِ، فَنَقُولُ: الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْعَارِيَّةِ وَبَيْنَ الْمُسْتَامِ أَكْثَرُ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا أَخَذَهُ الْأَجْنَبِيُّ لِغَرَضِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ الْمُودَعِ، فَإِنَّهُ أَخَذَ الْوَدِيعَةَ لِغَرَضِ الْمَالِكِ، فَكَانَتِ الْمُشَابَهَةُ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ وَبَيْنَ الْمُسْتَامِ أَتَمَّ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْمُسْتَعَارِ وَبَيْنَ الْمُودَعِ. حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «لَا ضَمَانَ عَلَى مُؤْتَمَنٍ» .

قُلْنَا: إِنَّهُ مَخْصُوصٌ فِي الْمُسْتَامِ، فَكَذَا فِي الْعَارِيَّةِ، ولأن دليلنا ظاهر القرآن وهو أقوى.

قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً.

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: اعْلَمْ أَنَّ الْأَمَانَةَ عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا وَجَبَ لِغَيْرِكَ عَلَيْكَ حَقٌّ فَأَدَّيْتَ ذَلِكَ الْحَقَّ إِلَيْهِ فَهَذَا هُوَ الْأَمَانَةُ، وَالْحُكْمُ بِالْحَقِّ عِبَارَةٌ عَمَّا إِذَا وَجَبَ لِإِنْسَانٍ عَلَى غَيْرِهِ حَقٌّ فَأَمَرْتَ مَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ ذَلِكَ الْحَقُّ بِأَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى مَنْ لَهُ ذَلِكَ الْحَقُّ، وَلَمَّا كَانَ التَّرْتِيبُ الصَّحِيحُ أَنْ يَبْدَأَ الْإِنْسَانُ بِنَفْسِهِ فِي جَلْبِ الْمَنَافِعِ وَدَفْعِ الْمَضَارِّ ثُمَّ يَشْتَغِلُ بِغَيْرِهِ، لَا جَرَمَ أَنَّهُ تَعَالَى ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالْأَمَانَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ بَعْدَهُ ذَكَرَ الْأَمْرَ بِالْحُكْمِ بِالْحَقِّ، فَمَا أَحْسَنَ هَذَا التَّرْتِيبَ، لِأَنَّ أَكْثَرَ لَطَائِفِ الْقُرْآنِ مُودَعَةٌ فِي التَّرْتِيبَاتِ وَالرَّوَابِطِ.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ مَنْ كَانَ حَاكِمًا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَحْكُمَ بِالْعَدْلِ قَالَ تَعَالَى: وَإِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ وَالتَّقْدِيرُ: إِنَّ اللَّه يَأْمُرُكُمْ إِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ. وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ [النَّحْلِ: ٩٠] وَقَالَ: وَإِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كانَ ذَا قُرْبى

[الْأَنْعَامِ: ١٥٢] وقال:

يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ [ص: ٢٦]

وَعَنْ أَنَسٌ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا إِذَا قَالَتْ صَدَقَتْ وَإِذَا حَكَمَتْ عَدَلَتْ وَإِذَا اسْتَرْحَمَتْ رَحِمَتْ»

وَعَنِ الْحَسَنِ قَالَ: إِنَّ اللَّه أَخَذَ عَلَى الْحُكَّامِ ثَلَاثًا: أَنْ لَا يَتَّبِعُوا الْهَوَى، وَأَنْ يَخْشَوْهُ وَلَا يَخْشَوُا النَّاسَ، وَلَا يَشْتَرُوا بِآيَاتِهِ ثَمَنًا قليلا. ثم قرأ يَا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ إِلَى قَوْلِهِ: وَلا تَتَّبِعِ الْهَوى [ص: ٢٦] وَقَرَأَ إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها

<<  <  ج: ص:  >  >>