للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

غَيْرِهِ مَجَازٌ إِذْ كُلُّ مَا سِوَى اللَّه، فإنه من حيث هو هو ظلمة محضة لِأَنَّهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ هُوَ عَدَمٌ مَحْضٌ، بَلِ الْأَنْوَارُ إِذَا نَظَرْنَا إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ فَهِيَ ظُلُمَاتٌ، لِأَنَّهَا مِنْ حَيْثُ هِيَ هِيَ مُمْكِنَاتٌ، وَالْمُمْكِنُ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ مَعْدُومٌ، وَالْمَعْدُومُ مُظْلِمٌ. فَالنُّورُ إِذَا نُظِرَ إِلَيْهِ مِنْ حَيْثُ هُوَ هُوَ ظُلْمَةٌ، فَأَمَّا إِذَا الْتُفِتَ إِلَيْهَا مِنْ حَيْثُ أَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ أَفَاضَ عَلَيْهَا نُورَ الْوُجُودِ فَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ صَارَتْ أَنْوَارًا. فَثَبَتَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ هُوَ النُّورُ. وَأَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ فَلَيْسَ بِنُورٍ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ. ثُمَّ إِنَّهُ رَحِمَهُ اللَّه تَكَلَّمَ بَعْدَ هَذَا فِي أَمْرَيْنِ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ سبحانه لم أضاف النور إلى السموات والأرض؟ وأجاب فقال قد عرفت أن السموات وَالْأَرْضَ مَشْحُونَةٌ بِالْأَنْوَارِ الْعَقْلِيَّةِ وَالْأَنْوَارِ الْحِسِّيَّةِ، أَمَّا الحسية فما يشاهد في السموات مِنَ الْكَوَاكِبِ وَالشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَمَا يُشَاهَدُ فِي الْأَرْضِ مِنَ الْأَشِعَّةِ الْمُنْبَسِطَةِ عَلَى سُطُوحِ الْأَجْسَامِ حَتَّى ظَهَرَتْ بِهِ الْأَلْوَانُ الْمُخْتَلِفَةُ، وَلَوْلَاهَا لَمْ يَكُنْ لِلْأَلْوَانِ ظُهُورٌ بَلْ وُجُودٌ، وَأَمَّا الْأَنْوَارُ الْعَقْلِيَّةُ فَالْعَالَمُ الْأَعْلَى مَشْحُونٌ بِهَا وَهِيَ جَوَاهِرُ الْمَلَائِكَةِ وَالْعَالَمُ الْأَسْفَلُ/ مَشْحُونٌ بِهَا وَهِيَ الْقُوَى النَّبَاتِيَّةُ وَالْحَيَوَانِيَّةُ وَالْإِنْسَانِيَّةُ وَبِالنُّورِ الْإِنْسَانِيِّ السُّفْلِيِّ ظَهَرَ نظام عالم السفل كما بالنور الملكي ظهر نِظَامِ عَالَمِ الْعُلُوِّ، وَهُوَ الْمَعْنِيُّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ [النُّورِ: ٥٥] وَقَالَ: وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ [النَّمْلِ: ٦٢] فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا عَرَفْتَ أَنَّ الْعَالَمَ بِأَسْرِهِ مَشْحُونٌ بِالْأَنْوَارِ الظَّاهِرَةِ الْبَصَرِيَّةِ وَالْبَاطِنِيَّةِ الْعَقْلِيَّةِ، ثُمَّ عَرَفْتَ أَنَّ السُّفْلِيَّةَ فَائِضَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ فَيَضَانَ النُّورِ مِنَ السِّرَاجِ فَإِنَّ السِّرَاجَ هُوَ الرُّوحُ النَّبَوِيُّ، ثُمَّ إِنَّ الْأَنْوَارَ النَّبَوِيَّةَ الْقُدْسِيَّةَ مُقْتَبَسَةٌ مِنَ الْأَرْوَاحِ الْعُلْوِيَّةِ اقْتِبَاسَ السِّرَاجِ مِنَ النُّورِ، وَإِنَّ الْعُلْوِيَّاتِ مُقْتَبِسَةٌ بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَإِنَّ بَيْنَهَا تَرْتِيبًا فِي الْمَقَامَاتِ، ثُمَّ تَرْتَقِي جُمْلَتُهَا إِلَى نُورِ الْأَنْوَارِ وَمَعْدِنِهَا وَمَنْبَعِهَا الْأَوَّلِ، وَأَنَّ

ذَلِكَ هُوَ اللَّه وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، فَإِذَنِ الْكُلُّ نُورُهُ فَلِهَذَا قَالَ: اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ.

السُّؤَالُ الثَّانِي: فَإِذَا كَانَ اللَّه النُّورَ فَلِمَ احْتِيجَ فِي إِثْبَاتِهِ إِلَى الْبُرْهَانِ؟ أَجَابَ فَقَالَ إِنَّ مَعْنَى كونه نور السموات وَالْأَرْضِ مَعْرُوفٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى النُّورِ الظَّاهِرِ الْبَصَرِيِّ، فَإِذَا رَأَيْتَ خُضْرَةَ الرَّبِيعِ فِي ضِيَاءِ النَّهَارِ فَلَسْتَ تَشُكُّ فِي أَنَّكَ تَرَى الْأَلْوَانَ فَرُبَّمَا ظَنَنْتَ أَنَّكَ لَا تَرَى مَعَ الْأَلْوَانِ غَيْرَهَا، فَإِنَّكَ تَقُولُ لَسْتُ أَرَى مَعَ الْخُضْرَةِ غَيْرَ الْخُضْرَةِ إِلَّا أَنَّكَ عِنْدَ غُرُوبِ الشَّمْسِ تُدْرِكُ تَفْرِقَةً ضَرُورِيَّةً بَيْنَ اللَّوْنِ حَالَ وُقُوعِ الضَّوْءِ عَلَيْهِ وَعَدَمِ وُقُوعِهِ عَلَيْهِ، فَلَا جَرَمَ تَعْرِفُ أَنَّ النُّورَ مَعْنًى غَيْرُ اللَّوْنِ يُدْرَكُ مَعَ الْأَلْوَانِ إِلَّا أَنَّهُ كَانَ لِشِدَّةِ اتِّحَادِهِ بِهِ لَا يُدْرَكُ وَلِشِدَّةِ ظُهُورِهِ يَخْتَفِي وَقَدْ يَكُونُ الظُّهُورُ سَبَبَ الْخَفَاءِ، إِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَاعْلَمْ أَنَّهُ كَمَا ظَهَرَ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبَصَرِ بِالنُّورِ الظَّاهِرِ فَقَدْ ظَهَرَ كُلُّ شَيْءٍ لِلْبَصِيرَةِ الْبَاطِنَةِ باللَّه وَنُورُهُ حَاصِلٌ مَعَ كُلِّ شَيْءٍ لَا يفارقه، ولكن بقي هاهنا تَفَاوُتٌ وَهُوَ أَنَّ النُّورَ الظَّاهِرَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَغِيبَ بِغُرُوبِ الشَّمْسِ، وَيُحْجَبَ فَحِينَئِذٍ يَظْهَرُ أَنَّهُ غَيْرُ اللَّوْنِ، وَأَمَّا النُّورُ الْإِلَهِيُّ الَّذِي بِهِ يَظْهَرُ كُلُّ شَيْءٍ لَا يُتَصَوَّرُ غَيْبَتُهُ بَلْ يَسْتَحِيلُ تَغَيُّرُهُ فَيَبْقَى مَعَ الْأَشْيَاءِ دَائِمًا، فَانْقَطَعَ طَرِيقُ الِاسْتِدْلَالِ بِالتَّفْرِقَةِ، وَلَوْ تُصُوِّرَتْ غَيْبَتُهُ لَانْهَدَمَتِ السموات وَالْأَرْضُ وَلَأُدْرِكَ عِنْدَهُ مِنَ التَّفْرِقَةِ مَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الضَّرُورِيُّ بِهِ، وَلَكِنْ لَمَّا تَسَاوَتِ الْأَشْيَاءُ كُلُّهَا عَلَى نَمَطٍ وَاحِدٍ فِي الشَّهَادَةِ عَلَى وُجُودِ خَالِقِهَا، وَأَنَّ كُلَّ شَيْءٍ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ لَا بَعْضَ الْأَشْيَاءِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَوْقَاتِ لَا فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ارْتَفَعَتِ التَّفْرِقَةُ وَخَفِيَ الطَّرِيقُ، إِذِ الطَّرِيقُ الظَّاهِرُ مَعْرِفَةُ الْأَشْيَاءِ بِالْأَضْدَادِ فَمَا لَا ضِدَّ لَهُ وَلَا تَغَيُّرَ لَهُ بِتَشَابُهِ أَحْوَالِهِ، فَلَا يَبْعُدُ أَنْ يَخْفَى وَيَكُونُ خَفَاؤُهُ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَجَلَائِهِ، فَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَفَى عَنِ الْخَلْقِ لِشِدَّةِ ظُهُورِهِ وَاحْتَجَبَ عَنْهُمْ بِإِشْرَاقِ نُورِهِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا الْكَلَامَ الَّذِي رَوَيْنَاهُ عَنِ الشَّيْخِ الْغَزَالِيِّ رَحِمَهُ اللَّه كَلَامٌ مُسْتَطَابٌ وَلَكِنْ يَرْجِعُ حَاصِلُهُ بَعْدَ التَّحْقِيقِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ نُورًا أَنَّهُ خَالِقٌ لِلْعَالَمِ

<<  <  ج: ص:  >  >>