إِلَى الْمَجَازِ لَا يَجُوزُ إِلَّا لِدَلِيلٍ مُنْفَصِلٍ الرَّابِعُ:
رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «أَوَّلُ الْآيَاتِ الدُّخَانُ وَنُزُولُ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ وَنَارٌ تَخْرُجُ مِنْ قَعْرِ عَدَنَ تَسُوقُ النَّاسَ إِلَى الْمَحْشَرِ، قَالَ حُذَيْفَةُ يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا الدُّخَانُ فَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْآيَةَ وَقَالَ دُخَانٌ يَمْلَأُ مَا بَيْنَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ يَمْكُثُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً، أَمَّا الْمُؤْمِنُ فَيُصِيبُهُ كَهَيْئَةِ الزَّكْمَةِ، وَأَمَّا الْكَافِرُ فَهُوَ كَالسَّكْرَانِ يَخْرُجُ مِنْ مَنْخَرَيْهِ وَأُذُنَيْهِ وَدُبُرِهِ» رَوَاهُ/ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» :
وَرَوَى الْقَاضِي عَنِ الْحَسَنُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «بَاكِرُوا بِالْأَعْمَالِ سِتًّا، وَذَكَرَ مِنْهَا طُلُوعَ الشَّمْسِ مِنْ مَغْرِبِهَا وَالدَّجَّالَ وَالدُّخَانَ وَالدَّابَّةَ»
أَمَّا الْقَائِلُونَ بِالْقَوْلِ الْأَوَّلِ، فَلَا شَكَّ أَنَّ ذَلِكَ يَقْتَضِي صَرْفَ اللَّفْظِ عَنْ حَقِيقَتِهِ إِلَى الْمَجَازِ، وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ إِلَّا عِنْدَ قِيَامِ دَلِيلٍ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ حَمْلَهُ عَلَى حَقِيقَتِهِ مُمْتَنِعٌ وَالْقَوْمُ لَمْ يَذْكُرُوا ذَلِكَ الدَّلِيلَ فَكَانَ الْمَصِيرُ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ مُشْكِلًا جِدًّا، فَإِنْ قَالُوا الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مَا ذَكَرْنَاهُ، أَنَّهُ تَعَالَى حَكَى عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وَهَذَا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى الْقَحْطِ الَّذِي وَقَعَ بِمَكَّةَ اسْتَقَامَ فَإِنَّهُ نُقِلَ أَنَّ الْقَحْطَ لَمَّا اشْتَدَّ بِمَكَّةَ مَشَى إِلَيْهِ أَبُو سُفْيَانَ وَنَاشَدَهُ بِاللَّهِ وَالرَّحِمِ وَأَوْعَدَهُ «١» أَنَّهُ إِنْ دَعَا لَهُمْ وَأَزَالَ اللَّهُ عَنْهُمْ تِلْكَ الْبَلِيَّةَ أَنْ يُؤْمِنُوا بِهِ، فَلَمَّا أَزَالَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ ذَلِكَ رَجَعُوا إِلَى شِرْكِهِمْ، أَمَّا إِذَا حَمَلْنَاهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ ظُهُورُ عَلَامَةٍ مِنْ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ لَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ، لِأَنَّ عِنْدَ ظُهُورِ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ لَا يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَقُولُوا رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ وَلَمْ يَصِحَّ أَيْضًا أَنْ يُقَالَ لَهُمْ إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عائِدُونَ وَالْجَوَابُ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ظُهُورُ هَذِهِ الْعَلَامَةِ جَارِيًا مَجْرَى ظُهُورِ سَائِرِ عَلَامَاتِ الْقِيَامَةِ فِي أَنَّهُ لَا يُوجِبُ انْقِطَاعَ التَّكْلِيفِ فَتَحْدُثُ هَذِهِ الْحَالَةُ، ثُمَّ إِنَّ النَّاسَ يَخَافُونَ جِدًّا فَيَتَضَرَّعُونَ، فَإِذَا زَالَتْ تِلْكَ الْوَاقِعَةُ عَادُوا إِلَى الْكُفْرِ وَالْفِسْقِ، وَإِذَا كَانَ هَذَا مُحْتَمَلًا فَقَدْ سَقَطَ مَا قَالُوهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَلْنَرْجِعْ إِلَى التَّفْسِيرِ فَنَقُولُ قَوْلُهُ تَعَالَى: يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ أَيْ ظَاهِرِ الْحَالِ لَا يَشُكُّ أَحَدٌ فِي أَنَّهُ دُخَانٌ يَغْشَى النَّاسَ أَيْ يَشْمَلُهُمْ وَهُوَ فِي مَحَلِّ الْجَرِّ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ بِدُخانٍ وَفِي قَوْلِهِ هَذَا عَذابٌ أَلِيمٌ قَوْلَانِ الْأَوَّلُ: أَنَّهُ مَنْصُوبُ الْمَحَلِّ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ وَهُوَ يَقُولُونَ وَيَقُولُونَ مَنْصُوبٌ عَلَى الْحَالِ أَيْ قَائِلِينَ ذَلِكَ الثَّانِي: قَالَ الْجُرْجَانِيُّ صَاحِبُ «النَّظْمِ» : هَذَا إِشَارَةٌ إِلَيْهِ وَإِخْبَارٌ عَنْ دُنُوِّهِ وَاقْتِرَابِهِ كَمَا يُقَالُ هَذَا الْعَدُوُّ فَاسْتَقْبِلْهُ وَالْغَرَضُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْقُرْبِ.
ثُمَّ قَالَ: رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ فَإِنْ قُلْنَا التَّقْدِيرُ: يَقُولُونَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ فَالْمَعْنَى ظَاهِرٌ وَإِنْ لم يضمر القول هناك أضمرناه هاهنا وَالْعَذَابُ عَلَى الْقَوْلِ الْأَوَّلِ هُوَ الْقَحْطُ الشَّدِيدُ، وعلى القول الثاني الدخان الْمُهْلِكُ إِنَّا مُؤْمِنُونَ أَيْ بِمُحَمَّدٍ وَبِالْقُرْآنِ، وَالْمُرَادُ منه الوعيد بِالْإِيمَانِ إِنْ كَشَفَ عَنْهُمُ الْعَذَابَ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى يَعْنِي كَيْفَ يَتَذَكَّرُونَ وَكَيْفَ يَتَّعِظُونَ بِهَذِهِ الْحَالَةِ وَقَدْ جَاءَهُمْ مَا هُوَ أَعْظَمُ وَأَدْخَلُ فِي وُجُوبِ الطَّاعَةِ وَهُوَ مَا ظَهَرَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ الْقَاهِرَةِ وَالْبَيِّنَاتِ الْبَاهِرَةِ ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَلَمْ يَلْتَفِتُوا إِلَيْهِ وَقالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ وَذَلِكَ لِأَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ كَانَ لَهُمْ فِي ظُهُورِ الْقُرْآنِ عَلَى مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَوْلَانِ مِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَقُولُ إِنَّ مُحَمَّدًا يَتَعَلَّمُ هَذِهِ الْكَلِمَاتِ مِنْ بَعْضِ النَّاسِ لِقَوْلِهِ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ [النَّحْلِ: ١٠٣] وَكَقَوْلِهِ تَعَالَى: / وَأَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ [الْفُرْقَانِ: ٤]
(١) هكذا الأصل، والصواب «ووعده» بدون الألف، لأن أوعده لا تكون إلا في الشر بخلاف وعده فهي في الخير دائما.
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute