ثُمَّ ذَكَرُوا أَمْرَهُمْ وَأَمْرَ يُونُسَ لِلْعُلَمَاءِ الَّذِينَ كَانُوا فِي دِينِهِمْ، فَقَالُوا انْظُرُوا وَاطْلُبُوهُ فِي الْمَدِينَةِ فَإِنْ كَانَ فِيهَا فَلَيْسَ مِمَّا ذَكَرَ مِنْ نُزُولِ الْعَذَابِ شَيْءٌ، وَإِنْ كَانَ قَدْ خَرَجَ فَهُوَ كَمَا قَالَ: فَطَلَبُوهُ فَقِيلَ لَهُمْ إِنَّهُ خَرَجَ الْعَشِيَّ فَلَمَّا آيَسُوا أَغْلَقُوا بَابَ مَدِينَتِهِمْ فَلَمْ يَدْخُلْهَا بَقَرُهُمْ وَلَا غَنَمُهُمْ وَعَزَلُوا الْوَالِدَةَ عَنْ وَلَدِهَا وَكَذَا الصِّبْيَانُ وَالْأُمَّهَاتُ، ثُمَّ قَامُوا يَنْتَظِرُونَ الصُّبْحَ. فَلَمَّا انْشَقَّ الصُّبْحُ رَأَوُا الْعَذَابَ يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ فَشَقُّوا جُيُوبَهُمْ وَوَضَعَتِ الْحَوَامِلُ مَا فِي بُطُونِهَا، وَصَاحَ الصِّبْيَانُ وَثَغَتِ الْأَغْنَامُ وَالْبَقَرُ، فَرَفَعَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُمُ الْعَذَابَ، فَبَعَثُوا إِلَى يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَآمَنُوا بِهِ، وَبَعَثُوا مَعَهُ بَنِي إِسْرَائِيلَ.
فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ كَانَتْ رِسَالَةُ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ بَعْدَ مَا نَبَذَهُ الْحُوتُ، وَدَلِيلُ هَذَا الْقَوْلِ قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الصَّافَّاتِ: فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَهُوَ سَقِيمٌ وَأَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ وَأَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصَّافَّاتِ: ١٤٥- ١٤٧] وَفِي هَذَا الْقَوْلِ
رِوَايَةٌ أُخْرَى وَهِيَ أَنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ قَالَ لِيُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ: انْطَلِقْ إِلَى أَهْلِ نِينَوَى وَأَنْذِرْهُمْ أَنَّ الْعَذَابَ قَدْ حَضَرَهُمْ، فَقَالَ يُونُسُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: أَلْتَمِسُ دَابَّةً فَقَالَ الْأَمْرُ أَعْجَلُ مِنْ ذَلِكَ فَغَضِبَ وَانْطَلَقَ إِلَى السَّفِينَةِ،
وَبَاقِي الْحِكَايَةِ كَمَا مَرَّتْ إِلَى أَنِ الْتَقَمَهُ الْحُوتُ فَانْطَلَقَ إِلَى أَنْ وَصَلَ إِلَى نِينَوَى فَأَلْقَاهُ هُنَاكَ. أَمَّا الْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ أَنَّ قِصَّةَ الْحُوتِ كَانَتْ بَعْدَ دُعَائِهِ أَهْلَ نِينَوَى وَتَبْلِيغِهِ رِسَالَةَ اللَّه إِلَيْهِمْ قَالُوا إِنَّهُمْ لَمَّا لَمْ يُؤْمِنُوا وَعَدَهُمْ بِالْعَذَابِ، فَلَمَّا كُشِفَ الْعَذَابُ عَنْهُمْ بَعْدَ مَا تَوَعَّدَهُمْ بِهِ خَرَجَ مِنْهُمْ مُغَاضِبًا، ثُمَّ ذَكَرُوا فِي سَبَبِ الْخُرُوجِ والغضب أمورا. أحدها: أنه استحى أَنْ يَكُونَ بَيْنَ قَوْمٍ قَدْ جَرَّبُوا عَلَيْهِ الْكَذِبَ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ كَانَ مَنْ عَادَتِهِمْ قَتْلُ الْكَاذِبِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّهُ دَخَلَتْهُ الْأَنَفَةُ. وَرَابِعُهَا:
لَمَّا لَمْ يَنْزِلِ الْعَذَابُ بِأُولَئِكَ، وَأَكْثَرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ قِصَّةَ الْحُوتِ وَذَهَابِ يُونُسَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مُغَاضِبًا بَعْدَ أَنْ أَرْسَلَهُ اللَّه تَعَالَى إِلَيْهِمْ، وَبَعْدَ رَفْعِ الْعَذَابِ عَنْهُمْ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِجَوَازِ الذَّنْبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مِنْ/ وُجُوهٍ. أَحَدُهَا:
أَنَّ أَكْثَرَ الْمُفَسِّرِينَ عَلَى أَنَّهُ ذَهَبَ يُونُسُ مُغَاضِبًا لِرَبِّهِ وَيُقَالُ، هَذَا قَوْلُ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَوَهْبٍ وَاخْتِيَارُ ابْنِ قُتَيْبَةَ وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَيَلْزَمُ أَنَّ مُغَاضَبَتَهُ للَّه تَعَالَى مِنْ أَعْظَمِ الذُّنُوبِ، ثُمَّ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ هَذِهِ الْمُغَاضَبَةَ لَمْ تَكُنْ مَعَ اللَّه تَعَالَى بَلْ كَانَتْ مَعَ ذَلِكَ الْمَلِكِ أَوْ مَعَ الْقَوْمِ فَهُوَ أَيْضًا كَانَ مَحْظُورًا لِأَنَّ اللَّه تَعَالَى قَالَ: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ [الْقَلَمِ: ٤٨] وَذَلِكَ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الْفِعْلَ مِنْ يُونُسَ كَانَ مَحْظُورًا. وَثَانِيهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى: فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ وَذَلِكَ يَقْتَضِي كَوْنَهُ شَاكًّا فِي قُدْرَةِ اللَّه تَعَالَى. وَثَالِثُهَا: قَوْلُهُ: إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ وَالظُّلْمُ مِنْ أَسْمَاءِ الذَّمِّ لِقَوْلِهِ تَعَالَى:
أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هُودٍ: ١٨] . وَرَابِعُهَا: أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَصْدُرْ مِنْهُ الذَّنْبُ، فَلِمَ عَاقَبَهُ اللَّه بِأَنْ أَلْقَاهُ فِي بَطْنِ الْحُوتِ. وَخَامِسُهَا: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى: فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ
[الصَّافَّاتِ: ١٤٢] وَالْمُلِيمُ هُوَ ذُو الْمَلَامَةِ، وَمَنْ كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُذْنِبٌ. وَسَادِسُهَا: قَوْلُهُ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ صَاحِبُ الْحُوتِ مُذْنِبًا لَمْ يَجُزِ النَّهْيُ عَنِ التَّشَبُّهِ بِهِ وَإِنْ كَانَ مُذْنِبًا فَقَدْ حَصَلَ الْغَرَضُ. وَسَابِعُهَا: أَنَّهُ قَالَ: وَلا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ وقال: فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ [الْأَحْقَافِ: ٣٥] فَلَزِمَ أَنْ لَا يَكُونَ يُونُسُ مِنْ أُولِي الْعَزْمِ وَكَانَ مُوسَى مِنْ أُولِي الْعَزْمِ، ثُمَّ قَالَ: فِي حَقِّهِ لَوْ كَانَ ابْنُ عِمْرَانَ حَيًّا مَا وَسِعَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي، وَقَالَ فِي يُونُسَ: «لَا تُفَضِّلُونِي عَلَى يُونُسَ بْنِ مَتَّى» وَهَذَا خَارِجٌ عَنْ تَفْسِيرِ الْآيَةِ. وَالْجَوَابُ عَنِ الْأَوَّلِ أَنَّهُ لَيْسَ فِي الْآيَةِ مَنْ غَاضَبَهُ، لَكِنَّا نَقْطَعُ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ عَلَى نَبِيِّ اللَّه أَنْ يُغَاضِبَ رَبَّهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَنْ يَجْهَلُ كَوْنَ اللَّه مَالِكًا