يَعْقُوبَ إِسْرَائِيلِ اللَّه ابْنِ إِسْحَاقَ ذَبِيحِ اللَّه ابْنِ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلِ اللَّه إِلَى عَزِيزِ مِصْرَ. أَمَّا بَعْدُ: فَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ مُوَكَّلٌ بِنَا الْبَلَاءُ أَمَّا جَدِّي فَشُدَّتْ يَدَاهُ وَرِجْلَاهُ وَرُمِيَ فِي النَّارِ لِيُحْرَقَ فَنَجَّاهُ اللَّه وَجَعَلَهَا بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَيْهِ، وَأَمَّا أَبِي فَوُضِعَ السِّكِّينُ عَلَى قَفَاهُ لِيُقْتَلَ فَفَدَاهُ اللَّه، وَأَمَّا أَنَا فَكَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَحَبَّ أَوْلَادِي إِلَيَّ فَذَهَبَ بِهِ إِخْوَتُهُ إِلَى الْبَرِّيَّةِ ثُمَّ أَتَوْنِي بِقَمِيصِهِ مُلَطَّخًا بِالدَّمِ وَقَالُوا قَدْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ فَذَهَبَتْ عَيْنَايَ مِنَ الْبُكَاءِ عَلَيْهِ، ثُمَّ كَانَ لِيَ ابْنٌ وَكَانَ أَخَاهُ مِنْ أُمِّهِ وَكُنْتُ أَتَسَلَّى بِهِ فَذَهَبُوا بِهِ إِلَيْكَ ثُمَّ رَجَعُوا وَقَالُوا: إِنَّهُ قَدْ سَرَقَ وَإِنَّكَ حَبَسْتَهُ عِنْدَكَ وَإِنَّا أَهْلُ بَيْتٍ لَا نَسْرِقُ وَلَا نَلِدُ سَارِقًا، فَإِنْ رَدَدْتَهُ عَلَيَّ وَإِلَّا دَعَوْتُ عَلَيْكَ دَعْوَةً تُدْرِكُ السَّابِعَ مِنْ وَلَدِكَ. فَلَمَّا قَرَأَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ الْكِتَابَ لَمْ يَتَمَالَكْ وَعِيلَ صَبْرُهُ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّهُ يُوسُفُ.
ثُمَّ حَكَى تَعَالَى عَنْ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَنَّهُ قَالَ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ قِيلَ إِنَّهُ لَمَّا قَرَأَ كِتَابَ أَبِيهِ يَعْقُوبَ ارْتَعَدَتْ مَفَاصِلُهُ وَاقْشَعَرَّ جِلْدُهُ وَلَانَ قَلْبُهُ وَكَثُرَ بُكَاؤُهُ وَصَرَّحَ بِأَنَّهُ يُوسُفُ.
وَقِيلَ: إِنَّهُ لَمَّا رأى إخوته تضرعوا إليه وو صفوا مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ شِدَّةِ الزَّمَانِ وَقِلَّةِ الْحِيلَةِ أَدْرَكَتْهُ الرِّقَّةُ فَصَرَّحَ حِينَئِذٍ بِأَنَّهُ يُوسُفُ، وَقَوْلُهُ: هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ اسْتِفْهَامٌ يُفِيدُ تَعْظِيمَ الْوَاقِعَةِ، وَمَعْنَاهُ: مَا أَعْظَمَ مَا ارْتَكَبْتُمْ فِي يُوسُفَ وَمَا أَقْبَحَ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ، وَهُوَ كَمَا يُقَالُ لِلْمُذْنِبِ هَلْ تَدْرِي من عصيت وعل تَعْرِفُ مَنْ خَالَفْتَ؟
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَصْدِيقٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ [يُوسُفَ:
١٥] وَأَمَّا قَوْلُهُ: وَأَخِيهِ فَالْمُرَادُ مَا فَعَلُوا بِهِ مِنْ تَعْرِيضِهِ لِلْغَمِّ بِسَبَبِ إِفْرَادِهِ عَنْ أَخِيهِ لِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، وَأَيْضًا كَانُوا يُؤْذُونَهُ وَمِنْ جُمْلَةِ أَقْسَامِ ذَلِكَ الْإِيذَاءِ قَالُوا فِي حَقِّهِ: إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ [يُوسُفَ: ٧٧] وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ فَهُوَ يَجْرِي مَجْرَى الْعُذْرِ كَأَنَّهُ قَالَ: أَنْتُمْ إِنَّمَا أَقْدَمْتُمْ عَلَى ذَلِكَ الْفِعْلِ الْقَبِيحِ الْمُنْكَرِ حَالَ مَا كُنْتُمْ فِي جَهَالَةِ الصِّبَا أَوْ فِي جَهَالَةِ الْغُرُورِ، يَعْنِي وَالْآنَ لَسْتُمْ كَذَلِكَ، وَنَظِيرُهُ مَا يُقَالُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ تَعَالَى: مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ [الِانْفِطَارِ: ٦] قِيلَ إِنَّمَا ذَكَرَ تَعَالَى هَذَا الْوَصْفَ الْمُعَيَّنَ لِيَكُونَ ذَلِكَ جَارِيًا مَجْرَى الْجَوَابِ وَهُوَ أَنْ يَقُولَ الْعَبْدُ يَا رَبِّ غَرَّنِي كرمك فكذا هاهنا إِنَّمَا ذَكَرَ ذَلِكَ الْكَلَامَ إِزَالَةً لِلْخَجَالَةِ عَنْهُمْ وَتَخْفِيفًا لِلْأَمْرِ عَلَيْهِمْ. ثُمَّ إِنَّ إِخْوَتَهُ قَالُوا: أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ قَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ إِنَّكَ عَلَى لَفْظِ الْخَبَرِ، وَقَرَأَ نَافِعٌ أَيِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ بِفَتْحِ الْأَلْفِ غَيْرَ مَمْدُودَةٍ وَبِالْيَاءِ وَأَبُو عَمْرٍو آيِنَّكَ بِمَدِّ الْأَلِفِ وَهُوَ رِوَايَةُ قَالُونَ عَنْ نَافِعٍ، والباقون أَإِنَّكَ بِهَمْزَتَيْنِ وَكُلُّ ذَلِكَ عَلَى الِاسْتِفْهَامِ، وَقَرَأَ أُبَيٌّ أَوَ أَنْتَ يُوسُفُ فَحُصِّلَ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَاتِ أَنَّ مِنَ الْقُرَّاءِ مَنْ قَرَأَ بِالِاسْتِفْهَامِ وَمِنْهُمْ مَنْ قَرَأَ بِالْخَبَرِ. أَمَّا الْأَوَّلُونَ فَقَالُوا: إِنَّ يُوسُفَ لَمَّا قَالَ لَهُمْ: هَلْ عَلِمْتُمْ وَتَبَسَّمَ فَأَبْصَرُوا ثَنَايَاهُ، وَكَانَتْ كَاللُّؤْلُؤِ الْمَنْظُومِ شَبَّهُوهُ بِيُوسُفَ، فقالوا له استفهاما أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الِاسْتِفْهَامِ أَنَّهُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَإِنَّمَا أَجَابَهُمْ عَمَّا اسْتَفْهَمُوا عَنْهُ. وَأَمَّا مَنْ قَرَأَ عَلَى الْخَبَرِ فَحُجَّتُهُ مَا رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمْ يَعْرِفُوهُ حَتَّى وَضَعَ التَّاجَ عَنْ رَأْسِهِ، وَكَانَ فِي فَرْقِهِ عَلَامَةٌ وَكَانَ لِيَعْقُوبَ وَإِسْحَاقَ مِثْلُهَا شِبْهُ الشَّامَةِ، فَلَمَّا رَفَعَ التَّاجَ عَرَفُوهُ بِتِلْكَ الْعَلَامَةِ، فَقَالُوا: إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنُ كَثِيرٍ أَرَادَ الِاسْتِفْهَامَ ثُمَّ حَذَفَ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ وَقَوْلُهُ: قالَ أَنَا يُوسُفُ فِيهِ بَحْثَانِ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اللَّامُ لَامُ الِابْتِدَاءِ، وَأَنْتَ مُبْتَدَأٌ وَيُوسُفُ خَبَرُهُ، وَالْجُمْلَةُ خَبَرُ إِنَّ.
الْبَحْثُ الثَّانِي: أَنَّهُ إِنَّمَا صَرَّحَ بِالِاسْمِ تَعْظِيمًا لِمَا نَزَلْ بِهِ مِنْ ظُلْمِ إِخْوَتِهِ وَمَا عَوَّضَهُ اللَّه مِنَ الظفر والنصر
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute