وَإِلَّا سَكَتْنَا. فَلِهَذَا السَّبَبِ قَدَّمُوا ذِكْرَ هَذِهِ الواقعة وقالوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ وَالْعَزِيزُ هُوَ الْمَلِكُ الْقَادِرُ الْمَنِيعُ مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَهُوَ الْفَقْرُ وَالْحَاجَةُ وَكَثْرَةُ الْعِيَالِ وَقِلَّةُ الطَّعَامِ وَعَنَوْا بِأَهْلِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ وَجِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ وَفِيهِ أَبْحَاثٌ:
الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: مَعْنَى الْإِزْجَاءِ فِي اللُّغَةِ، الدَّفْعُ قَلِيلًا قَلِيلًا وَمِثْلُهُ التَّزْجِيَةُ يُقَالُ الرِّيحُ تُزْجِي السَّحَابَ. قَالَ اللَّه تَعَالَى: أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً [النُّورِ: ٤٣] وَزَجَّيْتُ فُلَانًا بِالْقَوْلِ دَافَعْتُهُ، وَفُلَانٌ يُزْجِي الْعَيْشَ أَيْ يَدْفَعُ الزَّمَانَ بِالْحِيلَةِ.
وَالْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّمَا وَصَفُوا تِلْكَ الْبِضَاعَةَ بِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ إِمَّا لِنُقْصَانِهَا أَوْ لِرَدَاءَتِهَا أَوْ لَهُمَا جَمِيعًا وَالْمُفَسِّرُونَ ذَكَرُوا كُلَّ هَذِهِ الْأَقْسَامِ قَالَ الْحَسَنُ: الْبِضَاعَةُ الْمُزْجَاةُ الْقَلِيلَةُ، وَقَالَ آخَرُونَ إِنَّهَا كَانَتْ رَدِيئَةً وَاخْتَلَفُوا فِي تِلْكَ الرَّدَاءَةِ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُمَا كَانَتْ دَرَاهِمَ رَدِيئَةً لَا تقبل في ثمن الطعام، وقيل: الأقط، خَلِقُ الْغِرَارَةِ وَالْحَبْلِ وَأَمْتِعَةٌ رَثَّةٌ، وَقِيلَ: مَتَاعُ الْأَعْرَابِ الصُّوفُ وَالسَّمْنُ. وَقِيلَ: الْحَبَّةُ الْخَضْرَاءُ، وَقِيلَ: الْأَقِطُ، وَقِيلَ: النِّعَالُ وَالْأُدْمُ، وَقِيلَ: سَوِيقُ الْمُقْلِ، وَقِيلَ: صُوفُ الْمَعْزِ، وَقِيلَ: إِنَّ دَرَاهِمَ مِصْرَ كَانَتْ تُنْقَشُ فِيهَا صُورَةُ يُوسُفَ وَالدَّرَاهِمُ الَّتِي جَاءُوا بِهَا مَا كَانَ فِيهَا صُورَةُ يُوسُفَ فَمَا كَانَتْ مَقْبُولَةً عِنْدَ النَّاسِ.
الْبَحْثُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ أَنَّهُ لِمَ سُمِّيَتِ الْبِضَاعَةُ الْقَلِيلَةُ الرَّدِيئَةُ مُزْجَاةً؟ وَفِيهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الزَّجَّاجُ:
هِيَ مِنْ قَوْلِهِمْ فُلَانٌ يُزْجِي الْعَيْشَ أَيْ يَدْفَعُ الزَّمَانَ بِالْقَلِيلِ، وَالْمَعْنَى أَنَّا جِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ نُدَافِعُ بِهَا الزَّمَانَ، وَلَيْسَتْ مِمَّا يُنْتَفَعُ بِهِ وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ فَالتَّقْدِيرُ بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٌ بِهَا الْأَيَّامُ، الثَّانِي: قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: إِنَّمَا قِيلَ لِلدَّرَاهِمِ الرَّدِيئَةِ مُزْجَاةٌ، لِأَنَّهَا مَرْدُودَةٌ مَدْفُوعَةٌ غَيْرُ مَقْبُولَةٍ مِمَّنْ يُنْفِقُهَا/ قَالَ وَهِيَ مِنَ الْإِزْجَاءِ، وَالْإِزْجَاءُ عِنْدَ الْعَرَبِ السَّوْقُ وَالدَّفْعُ. الثَّالِثُ: بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ أَيْ مُؤَخَّرَةٍ مَدْفُوعَةٍ عَنِ الْإِنْفَاقِ لَا يُنْفِقُ مِثْلَهَا إِلَّا مَنِ اضْطُرَّ وَاحْتَاجَ إِلَيْهَا لِفَقْدِ غَيْرِهَا مِمَّا هُوَ أَجْوَدُ مِنْهَا. الرَّابِعُ: قَالَ الْكَلْبِيُّ: مُزْجَاةٌ لُغَةُ الْعَجَمِ، وَقِيلَ هِيَ مِنْ لُغَةِ الْقِبْطِ قَالَ أَبُو بَكْرٍ الْأَنْبَارِيُّ: لَا يَنْبَغِي أَنْ يُجْعَلَ لَفْظٌ عَرَبِيٌّ مَعْرُوفُ الِاشْتِقَاقِ وَالتَّصْرِيفِ مَنْسُوبًا إِلَى الْقِبْطِ.
الْبَحْثُ الرَّابِعُ: قَرَأَ حَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ مُزْجَاةٍ بِالْإِمَالَةِ، لِأَنَّ أصله الياء، والباقون بالنصب والتفخيم.
[في قوله تعالى فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ] وَاعْلَمْ أَنَّ حَاصِلَ الْكَلَامِ فِي كَوْنِ الْبِضَاعَةِ مزجاة إما لقلتها أو لنقصانها أو لمجموعهما ولما وصفوا شدة حالهم وو صفوا بِضَاعَتَهُمْ بِأَنَّهَا مُزْجَاةٌ قَالُوا لَهُ: فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَالْمُرَادُ أَنْ يُسَاهِلَهُمْ إِمَّا بِأَنْ يُقِيمَ النَّاقِصَ مَقَامَ الزَّائِدِ أَوْ يُقِيمَ الرَّدِيءَ مَقَامَ الْجَيِّدِ، ثُمَّ قَالُوا: وَتَصَدَّقْ عَلَيْنا وَالْمُرَادُ الْمُسَامَحَةُ بِمَا بَيْنَ الثَّمَنَيْنِ وَأَنْ يُسَعِّرَ لَهُمْ بِالرَّدِيءِ كَمَا يُسَعِّرُ بِالْجَيِّدِ، وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي أَنَّهُ هَلْ كَانَ ذَلِكَ طَلَبًا مِنْهُمْ لِلصَّدَقَةِ فَقَالَ سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ: إِنَّ الصَّدَقَةَ كَانَتْ حَلَالًا لِلْأَنْبِيَاءِ قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهَذِهِ الْآيَةِ وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، كَأَنَّهُمْ طَلَبُوا الْقَدْرَ الزَّائِدَ عَلَى سَبِيلِ الصَّدَقَةِ، وَأَنْكَرَ الْبَاقُونَ ذَلِكَ وَقَالُوا حَالُ الْأَنْبِيَاءِ وَحَالُ أَوْلَادِ الْأَنْبِيَاءِ يُنَافِي طَلَبَ الصَّدَقَةِ لِأَنَّهُمْ يَأْنَفُونَ مِنَ الْخُضُوعِ لِلْمَخْلُوقِينَ وَيَغْلُبُ عَلَيْهِمُ الِانْقِطَاعُ إِلَى اللَّه تَعَالَى وَالِاسْتِغَاثَةُ بِهِ عَمَّنْ سِوَاهُ، وَرُوِيَ عَنِ الْحَسَنِ وَمُجَاهِدٍ: أَنَّهُمَا كَرِهَا أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ فِي دُعَائِهِ اللَّهُمَّ تَصَدَّقْ عَلَيَّ، قَالُوا: لِأَنَّ اللَّه لَا يَتَصَدَّقُ إِنَّمَا يَتَصَدَّقُ الَّذِي يَبْتَغِي الثَّوَابَ، وَإِنَّمَا يَقُولُ: اللَّهُمَّ أَعْطِنِي أَوْ تَفَضَّلْ، فَعَلَى هَذَا التَّصَدُّقُ هُوَ إِعْطَاءُ الصَّدَقَةِ وَالْمُتَصَدِّقُ الْمُعْطِي، وَأَجَازَ اللَّيْثُ أَنْ يُقَالَ لِلسَّائِلِ: مُتَصَدِّقٌ وَأَبَاهُ الْأَكْثَرُونَ. وَرُوِيَ أَنَّهُمْ لَمَّا قَالُوا: مَسَّنا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَتَضَرَّعُوا إِلَيْهِ اغْرَوْرَقَتْ عَيْنَاهُ فَعِنْدَ ذَلِكَ قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ وَقِيلَ: دَفَعُوا إِلَيْهِ كِتَابَ يَعْقُوبَ فِيهِ مِنْ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute