للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الْوَجْهُ الْأَوَّلُ: أَنَّا بَيَّنَّا أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ أَقْدَمُوا عَلَى تِلْكَ الْأَعْمَالِ فِي زَمَنِ الصِّبَا لِأَنَّهُ مِنَ الْبَعِيدِ فِي مِثْلِ يَعْقُوبَ أَنْ يَبْعَثَ جَمْعًا مِنَ الصِّبْيَانِ غَيْرِ الْبَالِغِينَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَبْعَثَ مَعَهُمْ رَجُلًا عَاقِلًا يَمْنَعُهُمْ عَمَّا لَا يَنْبَغِي وَيَحْمِلُهُمْ عَلَى مَا يَنْبَغِي.

الْوَجْهُ الثَّانِي: هَبْ أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْجُبَّائِيُّ إِلَّا أَنَّا نَقُولُ غَايَةُ مَا فِي الْبَابِ أَنَّهُ لَا يَجِبُ الِاعْتِذَارُ عَنْ ذَلِكَ إِلَّا أَنَّهُ يُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُ يَحْسُنُ الِاعْتِذَارُ عَنْهُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ الْمُذْنِبَ إِذَا تَابَ زَالَ عِقَابُهُ ثُمَّ قَدْ يُعِيدُ التَّوْبَةَ وَالِاعْتِذَارَ مَرَّةً أُخْرَى، فعلمنا أن الإنسان أيضا قد يتوب عند ما لَا تَكُونُ التَّوْبَةُ وَاجِبَةً عَلَيْهِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُمْ لَمَّا اعْتَرَفُوا بِفَضْلِهِ عَلَيْهِمْ وَبِكَوْنِهِمْ مُجْرِمِينَ خَاطِئِينَ قَالَ يُوسُفُ: لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَفِيهِ بَحْثَانِ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: التَّثْرِيبُ التَّوْبِيخُ وَمِنْهُ

قَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «إِذَا زَنَتْ أَمَةُ أَحَدِكُمْ فَلْيَضْرِبْهَا الْحَدَّ وَلَا يُثَرِّبْهَا»

أَيْ وَلَا يُعَيِّرْهَا بِالزِّنَا، فَقَوْلُهُ: لَا تَثْرِيبَ أَيْ لَا تَوْبِيخَ وَلَا عَيْبَ وَأَصْلُ التَّثْرِيبِ مِنَ الثَّرْبِ وَهُوَ الشَّحْمُ الَّذِي هُوَ غَاشِيَةُ الْكِرْشِ. وَمَعْنَاهُ إِزَالَةُ الثَّرْبِ كَمَا أَنَّ التَّجْلِيدَ إِزَالَةُ الْجِلْدِ قَالَ عَطَاءٌ الْخُرَاسَانِيُّ طَلَبُ الْحَوَائِجِ إِلَى الشَّبَابِ أَسْهَلُ مِنْهَا إِلَى الشُّيُوخِ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِ يُوسُفَ عَلَيْهِ السَّلَامُ لِإِخْوَتِهِ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ وقوله يَعْقُوبَ:

سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي [يُوسُفَ: ٩٨] .

الْبَحْثُ الثَّانِي: إِنَّ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِمَاذَا وَفِيهِ قَوْلَانِ:

الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: إِنَّهُ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: لَا تَثْرِيبَ أي لا أثر بكم الْيَوْمَ وَهُوَ الْيَوْمُ الَّذِي هُوَ مَظِنَّةُ التَّثْرِيبِ فَمَا ظَنُّكُمْ بِسَائِرِ الْأَيَّامَ، وَفِيهِ احْتِمَالٌ آخَرُ وَهُوَ أَنِّي حَكَمْتُ فِي هَذَا الْيَوْمِ بِأَنْ لَا تَثْرِيبَ مُطْلَقًا لِأَنَّ قَوْلَهُ: لَا تَثْرِيبَ نَفْيٌ لِلْمَاهِيَّةِ وَنَفْيُ الْمَاهِيَّةِ يَقْتَضِي انْتِفَاءَ جَمِيعِ أَفْرَادِ الْمَاهِيَّةِ، فَكَانَ ذَلِكَ مُفِيدًا لِلنَّفْيِ الْمُتَنَاوِلِ لِكُلِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ فَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ الْيَوْمَ حَكَمْتُ بِهَذَا الْحُكْمِ الْعَامِّ الْمُتَنَاوِلِ لِكُلِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَحْوَالِ ثُمَّ إِنَّهُ لَمَّا بَيَّنَّ لَهُمْ أَنَّهُ أَزَالَ عَنْهُمْ مَلَامَةَ الدُّنْيَا طَلَبَ مِنَ اللَّه أَنْ يُزِيلَ عَنْهُمْ عِقَابَ الْآخِرَةِ فَقَالَ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَالْمُرَادُ مِنْهُ الدُّعَاءُ.

وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ قَوْلَهُ: الْيَوْمَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ كَأَنَّهُ لَمَّا نَفَى التَّثْرِيبَ مُطْلَقًا بَشَّرَهُمْ بِأَنَّ اللَّه غَفَرَ ذَنْبَهُمْ فِي هَذَا الْيَوْمِ، وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ لَمَّا انْكَسَرُوا وَخَجِلُوا وَاعْتَرَفُوا وَتَابُوا فاللَّه قَبِلَ تَوْبَتَهُمْ وَغَفَرَ ذَنْبَهُمْ، فَلِذَلِكَ قَالَ: الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ

رُوِيَ أَنَّ الرَّسُولَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَخَذَ بِعِضَادَتَيْ بَابِ الْكَعْبَةِ يَوْمَ الْفَتْحِ، وَقَالَ لِقُرَيْشٍ: «مَا تَرَوْنِي فَاعِلًا بِكُمْ» فَقَالُوا نَظُنُّ خَيْرًا أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ وَقَدْ قَدَرْتَ، فَقَالَ: «أَقُولُ مَا قَالَ أَخِي يُوسُفُ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ»

وَرُوِيَ أَنَّ أَبَا سُفْيَانَ لَمَّا جَاءَ لِيُسَلِّمَ قَالَ لَهُ الْعَبَّاسُ: إِذَا أَتَيْتَ رَسُولَ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتْلُ عَلَيْهِ: قالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ فَفَعَلَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «غَفَرَ اللَّه لَكَ وَلِمَنْ عَلَّمَكَ»

وَرُوِيَ أَنَّ إِخْوَةَ يُوسُفَ لَمَّا عَرَفُوهُ أَرْسَلُوا إِلَيْهِ إِنَّكَ تُحْضِرُنَا فِي مَائِدَتِكَ بُكْرَةً وَعَشِيًّا وَنَحْنُ نَسْتَحِي مِنْكَ لِمَا صَدَرَ مِنَّا مِنَ الْإِسَاءَةِ إِلَيْكَ، فَقَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ إِنَّ أَهْلَ مِصْرَ وَإِنْ مُلِّكْتُ فِيهِمْ فَإِنَّهُمْ يَنْظُرُونِي بِالْعَيْنِ الْأُولَى وَيَقُولُونَ:

سُبْحَانَ مَنْ بَلَّغَ عَبْدًا بِيعَ بِعِشْرِينَ دِرْهَمًا مَا بَلَغَ، وَلَقَدْ شَرُفْتُ الْآنَ بِإِتْيَانِكُمْ وَعَظُمْتُ فِي الْعُيُونِ لَمَّا جِئْتُمْ وَعَلِمَ النَّاسُ أَنَّكُمْ إِخْوَتِي وَأَنِّي مِنْ حَفَدَةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ.

ثُمَّ قَالَ يُوسُفُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: لما

<<  <  ج: ص:  >  >>