للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

مِنَ الْبَغْيِ، فَإِنَّهُ لَا مَعْنَى لِلْبَغْيِ إِلَّا التَّطَاوُلُ عَلَى النَّاسِ وَالتَّرَفُّعُ عَلَيْهِمْ، فَظَهَرَ بِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ الثَّلَاثَةَ مُنْطَبِقَةٌ عَلَى أَحْوَالِ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ، وَمِنَ الْعَجَائِبِ فِي هَذَا الْبَابِ أَنَّ الْعُقَلَاءَ قَالُوا: أَخَسُّ هَذِهِ الْقُوَى الثَّلَاثَةِ هِيَ الشَّهْوَانِيَّةُ، وَأَوْسَطُهَا الْغَضَبِيَّةُ وَأَعْلَاهَا الْوَهْمِيَّةُ. وَاللَّهُ تَعَالَى رَاعَى هَذَا التَّرْتِيبَ فَبَدَأَ بِالْفَحْشَاءِ الَّتِي هِيَ نَتِيجَةُ الْقُوَّةِ الشَّهْوَانِيَّةِ، ثُمَّ بِالْمُنْكَرِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ، ثُمَّ بِالْبَغْيِ الَّذِي هُوَ نَتِيجَةُ الْقُوَّةِ الْوَهْمِيَّةِ، فَهَذَا مَا وَصَلَ إِلَيْهِ عَقْلِي وَخَاطِرِي فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ، فَإِنْ يَكُ صَوَابًا فَمِنَ الرَّحْمَنِ، وَإِنْ يَكُنْ خَطَأً فَمِنِّي وَمِنَ الشَّيْطَانِ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ عَنْهُ بَرِيئَانِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى مَا خَصَّنَا بِهَذَا النوع مِنَ الْفَضْلِ وَالْإِحْسَانِ إِنَّهُ الْمَلِكُ الدَّيَّانُ.

ثم قال تَعَالَى: يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَالْمُرَادُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: يَعِظُكُمْ أَمْرُهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ وَنَهْيُهُ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَفِيهِ مَسْأَلَتَانِ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قَالَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى: وَنَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْءٍ [النَّحْلِ: ٨٩] أَرْدَفَهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ مُشْتَمِلَةً عَلَى الْأَمْرِ بِهَذِهِ الثَّلَاثَةِ، وَالنَّهْيِ عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ، كَانَ ذَلِكَ تَنْبِيهًا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِكَوْنِ الْقُرْآنِ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ هُوَ هَذِهِ التَّكَالِيفُ السِّتَّةُ وَهِيَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، لِأَنَّ جَوْهَرَ النَّفْسِ مِنْ زُمْرَةِ الْمَلَائِكَةِ وَمِنْ نَتَائِجِ الْأَرْوَاحِ الْعَالِيَةِ الْقُدْسِيَّةِ إِلَّا أَنَّهُ دَخَلَ فِي هَذَا الْعَالَمِ خَالِيًا عَارِيًا عَنِ التَّعَلُّقَاتِ فَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا هِيَ الَّتِي تُرَقِّيهَا بِالْمَعَارِفِ الْإِلَهِيَّةِ وَالْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ، وَتِلْكَ الْمَعَارِفُ وَالْأَعْمَالُ هِيَ الَّتِي تُرَقِّيهَا إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ وَسُرَادِقَاتِ الْقُدْسِ، وَمُجَاوَرَةِ الْمَلَائِكَةِ الْمُقَرَّبِينَ فِي جِوَارِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَتِلْكَ الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا هِيَ الَّتِي تَصُدُّهَا عَنْ تِلْكَ السَّعَادَاتِ وَتَمْنَعُهَا عَنِ الْفَوْزِ بِتِلْكَ الْخَيْرَاتِ، فَلَمَّا أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ، وَنَهَى عَنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فَقَدْ نَبَّهَ عَلَى كُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ الْمُسَافِرُونَ مِنْ عَالَمِ الدُّنْيَا إِلَى مَبْدَأِ عَرْصَةِ الْقِيَامَةِ.

المسألة الثَّانِيَةُ: قَالَ الْكَعْبِيُّ: الْآيَةُ تَدُّلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى لَا يَخْلُقُ الْجَوْرَ وَالْفَحْشَاءَ، وَذَلِكَ مِنْ وُجُوهٍ:

الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى كَيْفَ يَنْهَاهُمْ عَمَّا يَخْتَرِعُهُ فِيهِمْ، وَكَيْفَ يَنْهَى عَمَّا يُرِيدُ تَحْصِيلَهُ فِيهِمْ وَلَوْ كَانَ الْأَمْرُ كَمَا قَالُوا لَكَانَ كَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَفْعَلُوا خِلَافَ مَا خَلَقَهُ فِيكُمْ وَيَنْهَاكُمْ عَنْ أَفْعَالٍ خَلَقَهَا فِيكُمْ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ بَاطِلٌ فِي بَدِيهَةِ الْعَقْلِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَمَرَ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى، وَنَهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ، فَلَوْ أَنَّهُ تَعَالَى أَمَرَ بِتِلْكَ الثَّلَاثَةِ ثُمَّ إِنَّهُ مَا فَعَلَهَا لَدَخَلَ تَحْتَ قَوْلِهِ: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ [الْبَقَرَةِ: ٤٤] وَتَحْتَ قَوْلُهُ: لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصَّفِّ: ٢، ٣] . الثَّالِثُ: أَنَّ قَوْلَهُ: لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ لَيْسَ الْمُرَادُ مِنْهُ التَّرَجِّي وَالتَّمَنِّي، فَإِنَّ ذَلِكَ مُحَالٌ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى يَعِظُكُمْ لِإِرَادَةِ أَنْ تَتَذَكَّرُوا طَاعَتَهُ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى يُرِيدُ الْإِيمَانَ مِنَ الْكُلِّ. الرَّابِعُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ صَرَّحَ وَقَالَ: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي القربي، ولكنه تمنع مِنْهُ وَيَصُدُّ عَنْهُ وَلَا يُمَكِّنُ الْعَبْدَ مِنْهُ. ثم قال: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ وَلَكِنَّهُ يُوجِدُ كُلَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ فِي الْعَبْدِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَأَرَادَهُ مِنْهُ وَمَنَعَهُ مِنْ تَرْكِهِ، وَمِنَ الِاحْتِرَازِ عَنْهُ لَحَكَمَ كُلُّ أَحَدٍ عَلَيْهِ بِالرَّكَاكَةِ وَفَسَادِ النَّظْمِ وَالتَّرْكِيبِ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ سُبْحَانَهُ مُتَعَالِيًا عَنْ فِعْلِ الْقَبَائِحِ.

وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا النوع مِنَ الِاسْتِدْلَالِ كَثِيرٌ، وَقَدْ مَرَّ الْجَوَابُ عَنْهُ وَالْمُعْتَمَدُ فِي دَفْعِ هَذِهِ الْمُشَاغَبَاتِ التَّعْوِيلُ عَلَى سُؤَالِ الدَّاعِي وَسُؤَالِ الْعِلْمِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

<<  <  ج: ص:  >  >>