للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِالْخِتَانِ سَعْيًا فِي تَقْلِيلِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، حَتَّى يَصِيرَ مَيْلُ الْإِنْسَانِ إِلَى قَضَاءِ شَهْوَةِ الْجِمَاعِ إِلَى حَدِّ الِاعْتِدَالِ، وَأَنْ لَا تَصِيرَ الرَّغْبَةُ فِيهِ غَالِبَةً عَلَى الطَّبْعِ، فَالْإِخْصَاءُ وَقَطْعُ الْآلَاتِ عَلَى مَا تَذْهَبُ إِلَيْهِ الْمَانَوِيَّةُ مَذْمُومٌ لِأَنَّهُ إِفْرَاطٌ، وَإِبْقَاءُ تِلْكَ الْجِلْدَةِ مُبَالَغَةٌ فِي تَقْوِيَةِ تِلْكَ اللَّذَّةِ، وَالْعَدْلُ الْوَسَطُ هُوَ الْإِتْيَانُ بِالْخِتَانِ، فَظَهَرَ بِهَذِهِ الْأَمْثِلَةِ أَنَّ الْعَدْلَ وَاجِبُ الرِّعَايَةِ فِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، وَمِنَ الْكَلِمَاتِ الْمَشْهُورَةِ قَوْلُهُمْ: وبالعدل قامت السموات وَالْأَرْضُ، وَمَعْنَاهُ: أَنَّ مَقَادِيرَ الْعَنَاصِرِ لَوْ لَمْ تَكُنْ مُتَعَادِلَةً مُتَكَافِئَةً، بَلْ كَانَ بَعْضُهَا أَزْيَدَ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ مِنَ الْآخَرِ، لَاسْتَوْلَى الْغَالِبُ عَلَى الْمَغْلُوبِ وَوَهَى الْمَغْلُوبُ، وَتَنْقَلِبُ الطَّبَائِعُ كُلُّهَا إِلَى طَبِيعَةِ الْجُرْمِ الْغَالِبِ، وَلَوْ كَانَ بُعْدُ الشَّمْسِ مِنَ الْأَرْضِ أَقَلَّ مِمَّا هُوَ الْآنَ، لَعَظُمَتِ السُّخُونَةُ فِي هَذَا الْعَالَمِ وَاحْتَرَقَ كُلُّ مَا فِي هَذَا الْعَالَمِ، وَلَوْ كَانَ بُعْدُهَا أَزْيَدَ مِمَّا هُوَ الْآنَ لَاسْتَوْلَى الْبَرْدُ وَالْجُمُودُ عَلَى هَذَا الْعَالَمِ، وَكَذَا الْقَوْلُ فِي مَقَادِيرِ حَرَكَاتِ الْكَوَاكِبِ وَمَرَاتِبِ سُرْعَتِهَا وَبُطْئِهَا، فَإِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهَا لَوْ كَانَ أَزْيَدَ مِمَّا هُوَ الْآنَ أَوْ كَانَ أَنْقَصَ مِمَّا هُوَ الْآنَ لَاخْتَلَّتْ مَصَالِحُ هَذَا الْعَالَمِ فَظَهَرَ بِهَذَا السَّبَبِ الذي ذكرناه صدق قولهم: وبالعدل قامت السموات وَالْأَرْضُ، فَهَذِهِ إِشَارَةٌ مُخْتَصَرَةٌ إِلَى شَرْحِ حَقِيقَةِ الْعَدْلِ. وَأَمَّا الْإِحْسَانُ فَاعْلَمْ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى الْعَدْلِ قَدْ تَكُونُ إِحْسَانًا وَقَدْ تَكُونُ

إِسَاءَةً مِثَالُهُ: أَنَّ الْعَدْلَ فِي الطَّاعَاتِ هُوَ أَدَاءُ الْوَاجِبَاتِ أَمَّا الزِّيَادَةُ عَلَى الْوَاجِبَاتِ فَهِيَ أَيْضًا طَاعَاتٌ وَذَلِكَ مِنْ بَابِ الْإِحْسَانِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَالْمُبَالَغَةُ فِي أَدَاءِ الطَّاعَاتِ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ هُوَ الْإِحْسَانُ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ:

أَنَّ جِبْرِيلَ لَمَّا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْإِحْسَانِ قَالَ: «الْإِحْسَانُ أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ» .

فَإِنْ قَالُوا: لِمَ سُمِّيَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْإِحْسَانِ؟

قُلْنَا: كَأَنَّهُ بِالْمُبَالَغَةِ فِي الطَّاعَةِ يُحْسِنُ إِلَى نَفْسِهِ وَيُوصِلُ الْخَيْرَ وَالْفِعْلَ الْحَسَنَ إِلَى نَفْسِهِ، وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْعَدْلَ عِبَارَةٌ عَنِ الْقَدْرِ الْوَاجِبِ مِنَ الْخَيْرَاتِ، وَالْإِحْسَانَ عِبَارَةٌ عَنِ الزِّيَادَةِ فِي تِلْكَ الطَّاعَاتِ بِحَسَبِ الْكِمِّيَّةِ وَبِحَسَبِ الْكَيْفِيَّةِ، وَبِحَسَبِ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ، وَبِحَسَبِ الِاسْتِغْرَاقِ فِي شُهُودِ مَقَامَاتِ الْعُبُودِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ، فَهَذَا هُوَ الْإِحْسَانُ.

وَاعْلَمْ أَنَّ الْإِحْسَانَ بِالتَّفْسِيرِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ دَخَلَ فِيهِ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى وَالشَّفَقَةُ عَلَى خَلْقِ الله، وَمِنَ الظَّاهِرِ أَنَّ الشَّفَقَةَ عَلَى خَلْقِ اللَّهِ أَقْسَامٌ كَثِيرَةٌ وَأَشْرَفُهَا وَأَجَلُّهَا صِلَةُ الرَّحِمِ لَا جَرَمَ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ أَفْرَدَهُ بِالذِّكْرِ فَقَالَ:

وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى فَهَذَا تَفْصِيلُ الْقَوْلِ فِي هَذِهِ الثَّلَاثَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهَا. وَأَمَّا الثَّلَاثَةُ الَّتِي نَهَى اللَّهُ عَنْهَا، وَهِيَ الْفَحْشَاءُ وَالْمُنْكَرُ وَالْبَغْيُ فَنَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى أَوْدَعَ فِي النَّفْسِّ الْبَشَرِيَّةِ قُوًى أَرْبَعَةً، وَهِيَ الشَّهْوَانِيَّةُ الْبَهِيمِيَّةُ وَالْغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ وَالْوَهْمِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ وَالْعَقْلِيَّةُ الْمَلَكِيَّةُ وَهَذِهِ الْقُوَّةُ الرَّابِعَةُ أَعْنِي الْعَقْلِيَّةَ الْمَلَكِيَّةَ لَا يَحْتَاجُ الْإِنْسَانُ إِلَى تَأْدِيبِهَا وَتَهْذِيبِهَا، لِأَنَّهَا مِنْ جَوَاهِرِ الْمَلَائِكَةِ، وَمِنْ نَتَائِجِ الْأَرْوَاحِ الْقُدْسِيَّةِ الْعُلْوِيَّةِ، إِنَّمَا الْمُحْتَاجُ إِلَى التَّأْدِيبِ وَالتَّهْذِيبِ تِلْكَ الْقُوَى الثَّلَاثَةُ الأولى. أَمَّا الْقُوَّةُ الشَّهْوَانِيَّةُ، فَهِيَ إِنَّمَا تُرَغِّبُ فِي تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ، وَهَذَا النوع مَخْصُوصٌ بِاسْمِ الْفُحْشِ، أَلَا تَرَى أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى الزِّنَا فَاحِشَةً فَقَالَ: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَمَقْتاً وَساءَ سَبِيلًا [النساء: ٢٢] فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ الْمُرَادُ مِنْهُ الْمَنْعُ مِنْ تَحْصِيلِ اللَّذَّاتِ الشَّهْوَانِيَّةِ الْخَارِجَةِ عَنْ إِذْنِ الشَّرِيعَةِ، وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْغَضَبِيَّةُ السَّبُعِيَّةُ فَهِيَ: أَبَدًا تَسْعَى فِي إِيصَالِ الشَّرِّ وَالْبَلَاءِ وَالْإِيذَاءِ إِلَى سَائِرِ النَّاسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ النَّاسَ يُنْكِرُونَ تِلْكَ الْحَالَةَ، فَالْمُنْكَرُ عِبَارَةٌ عَنِ الْإِفْرَاطِ الْحَاصِلِ فِي آثَارِ الْقُوَّةِ الْغَضَبِيَّةِ. وَأَمَّا الْقُوَّةُ الْوَهْمِيَّةُ الشَّيْطَانِيَّةُ فَهِيَ أَبَدًا تَسْعَى فِي الِاسْتِعْلَاءِ عَلَى النَّاسِ وَالتَّرَفُّعِ وَإِظْهَارِ الرِّيَاسَةِ وَالتَّقَدُّمِ، وَذَلِكَ هو المراد

<<  <  ج: ص:  >  >>