يَدَّعِيَانِ النُّبُوَّةَ وَالرِّسَالَةَ مِنْ عِنْدِ اللَّه عَلَى سَبِيلِ الْكَذِبِ وَالِافْتِرَاءِ، وَكَانَ مُسَيْلِمَةُ يَقُولُ: مُحَمَّدٌ رَسُولُ قُرَيْشٍ، وَأَنَا رَسُولُ بَنِي حَنِيفَةَ. قَالَ الْقَاضِي: الَّذِي يَفْتَرِي عَلَى اللَّه الْكَذِبَ يَدْخُلُ فِيهِ مَنْ يَدَّعِي الرِّسَالَةَ كَذِبًا، وَلَكِنْ لَا يَقْتَصِرُ عَلَيْهِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِعُمُومِ اللَّفْظِ لَا بِخُصُوصِ السَّبَبِ. فَكُلُّ مَنْ نَسَبَ إِلَى اللَّه تَعَالَى مَا هُوَ بَرِيءٌ مِنْهُ، إِمَّا فِي الذَّاتِ، وَإِمَّا فِي الصِّفَاتِ وَإِمَّا فِي الْأَفْعَالِ كَانَ دَاخِلًا تَحْتَ هَذَا الْوَعِيدِ. قَالَ: وَالِافْتِرَاءُ عَلَى اللَّه فِي صِفَاتِهِ، كَالْمُجَسِّمَةِ، وَفِي عَدْلِهِ كَالْمُجْبِرَةِ، لِأَنَّ هَؤُلَاءِ قَدْ ظَلَمُوا أَعْظَمَ أَنْوَاعِ الظُّلْمِ بِأَنِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه الْكَذِبَ، وَأَقُولُ:
أَمَّا قَوْلُهُ: الْمُجَسِّمَةُ قَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه الْكَذِبَ، فَهُوَ حَقٌّ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: إِنَّ هَذَا افْتِرَاءٌ عَلَى اللَّه فِي صِفَاتِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ. / لِأَنَّ كَوْنَ الذَّاتِ جِسْمًا وَمُتَحَيَّزًا لَيْسَ بِصِفَةٍ، بَلْ هُوَ نَفْسُ الذَّاتِ الْمَخْصُوصَةِ، فَمَنْ زَعَمَ أَنَّ إِلَهَ الْعَالَمِ لَيْسَ بِجِسْمٍ، كَانَ مَعْنَاهُ أَنَّهُ يَقُولُ: جَمِيعُ الْأَجْسَامِ وَالْمُتَحَيَّزَاتِ مُحْدَثَةٌ، وَلَهَا بِأَسْرِهَا خَالِقٌ هُوَ مَوْجُودٌ لَيْسَ بِمُتَحَيَّزٍ، وَالْمُجَسِّمُ يَنْفِي هَذِهِ الذَّاتَ، فَكَانَ الْخِلَافُ بَيْنَ الْمُوَحِّدِ وَالْمُجَسِّمِ لَيْسَ فِي الصِّفَةِ بَلْ فِي نَفْسِ الذَّاتِ، لِأَنَّ الْمُوَحِّدَ يُثْبِتُ هَذِهِ الذَّاتَ وَالْمُجَسِّمَ يَنْفِيهَا، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْخِلَافَ لَمْ يَقَعْ فِي الصِّفَةِ، بَلْ فِي الذَّاتِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: الْمُجْبِرَةُ قَدِ افْتَرَوْا عَلَى اللَّه تَعَالَى فِي صِفَاتِهِ، فَلَيْسَ بِصَحِيحٍ، لِأَنَّهُ يُقَالُ لَهُ الْمُجْبِرَةُ مَا زَادُوا عَلَى قَوْلِهِمْ الْمُمْكِنُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُرَجِّحٍ، فَإِنَّ كَذَبُوا فِي هَذِهِ الْقَضِيَّةِ، فَكَيْفَ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يَعْرِفُوا وُجُودَ الْإِلَهِ؟ وَإِنْ صَدَقُوا فِي ذَلِكَ لَزِمَهُمُ الْإِقْرَارُ بِتَوْقِيفِ صُدُورِ الْفِعْلِ عَلَى حُصُولِ الدَّاعِي بِتَخْلِيقِ اللَّه تَعَالَى، وَذَلِكَ عَيْنُ مَا نُسَمِّيهِ بِالْجَبْرِ، فَثَبَتَ أَنَّ الَّذِي وَصَفَهُ بِكَوْنِهِ افْتِرَاءً عَلَى اللَّه بَاطِلٌ، بَلِ الْمُفْتَرِي عَلَى اللَّه مَنْ يَقُولُ الْمُمْكِنُ لَا يَتَوَقَّفُ رُجْحَانُ أَحَدِ طَرَفَيْهِ عَلَى الْآخَرِ عَلَى حُصُولِ الْمُرَجَّحِ. فَإِنَّ مَنْ قَالَ هَذَا الْكَلَامَ لَزِمَهُ نَفْيُ الصَّانِعِ بِالْكُلِّيَّةِ، بَلْ يَلْزَمُهُ نَفْيُ الْآثَارِ وَالْمُؤَثِّرَاتِ بِالْكُلِّيَّةِ.
وَالنَّوْعُ الثَّانِي: مِنَ الْأَشْيَاءِ الَّتِي وَصَفَهَا اللَّه تَعَالَى بِكَوْنِهَا افْتِرَاءً قَوْلُهُ: أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَالْفَرْقُ بَيْنَ هَذَا الْقَوْلِ وَبَيْنَ مَا قَبْلَهُ، أَنَّ فِي الْأَوَّلِ كَانَ يَدَّعِي أَنَّهُ أُوحِيَ إِلَيْهِ وَمَا كَانَ يَكْذِبُ بِنُزُولِ الْوَحْيِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وَأَمَّا فِي هَذَا الْقَوْلِ، فَقَدْ أَثْبَتَ الْوَحْيَ لِنَفْسِهِ وَنَفَاهُ عَنْ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، وَكَانَ هَذَا جَمْعًا بَيْنَ نَوْعَيْنِ عَظِيمَيْنِ مِنَ الْكَذِبِ، وَهُوَ إِثْبَاتُ مَا لَيْسَ بِمَوْجُودٍ وَنَفْيُ مَا هُوَ مَوْجُودٌ.
وَالنَّوْعُ الثَّالِثُ: قَوْلُهُ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: المراد ما قاله النضر بن الحرث وَهُوَ قَوْلُهُ: لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هَذَا وَقَوْلُهُ فِي الْقُرْآنِ: إِنَّهُ مِنْ أَسَاطِيرِ الْأَوَّلِينَ، وَكُلُّ أَحَدٍ يُمْكِنُهُ الْإِتْيَانُ بِمِثْلِهِ، وَحَاصِلُهُ: أَنَّ هَذَا الْقَائِلَ يَدَّعِي مُعَارَضَةَ الْقُرْآنِ.
وَرُوِيَ أَيْضًا أَنَّ عَبْدَ اللَّه بْنَ سَعْدِ بْنِ أَبِي سَرْحٍ كَانَ يَكْتُبُ الْوَحْيَ لِلرَّسُولِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، فَلَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ: وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ [المؤمنون: ١٢] إملاء الرَّسُولُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ عَجِبَ عَبْدُ اللَّه مِنْهُ فَقَالَ: فَتَبَارَكَ اللَّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ! فَقَالَ الرَّسُولُ هَكَذَا أُنْزِلَتِ الْآيَةُ، فَسَكَتَ عَبْدُ اللَّه وَقَالَ: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا، فَقَدْ أُوحِيَ إِلَيَّ، وَإِنْ كَانَ كَاذِبًا فَقَدْ عَارَضْتُهُ، فَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ: سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ.
أَمَّا قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ فَاعْلَمْ أَنَّ أَوَّلَ الْآيَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً يُفِيدُ التَّخْوِيفَ الْعَظِيمَ عَلَى سَبِيلِ الْإِجْمَالِ وَقَوْلُهُ بَعْدَ ذَلِكَ: وَلَوْ تَرى / إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ كَالتَّفْصِيلِ لِذَلِكَ الْمُجْمَلِ، وَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ، وَغَمَرَاتُ الْمَوْتِ جَمْعُ غَمْرَةٍ وَهِيَ شَدَّةُ الْمَوْتِ، وَغَمْرَةُ كُلِّ شَيْءٍ كَثْرَتُهُ وَمُعْظَمُهُ، وَمِنْهُ غَمْرَةُ الْمَاءِ، وَغَمْرَةُ الْحَرْبِ، وَيُقَالُ غَمَرَهُ الشَّيْءُ إِذَا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute