وَالْقَوْلُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ الْأَكْثَرِينَ: أَنَّهُ مَا كَانَ مِنَ الْجِنِّ رَسُولٌ الْبَتَّةَ وَإِنَّمَا كَانَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ. وَمَا رَأَيْتُ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ حُجَّةً إِلَّا ادِّعَاءَ الْإِجْمَاعِ وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ كَيْفَ يَنْعَقِدُ الْإِجْمَاعُ مَعَ حُصُولِ الِاخْتِلَافِ وَيُمْكِنُ أَنْ يُسْتَدَلَّ فِيهِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْراهِيمَ وَآلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ [آلِ عِمْرَانَ: ٣٣] وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهَذَا الِاصْطِفَاءِ إِنَّمَا هُوَ النُّبُوَّةُ فَوَجَبَ كَوْنُ النُّبُوَّةِ مَخْصُوصَةً بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ فَقَطْ فَأَمَّا تَمَسُّكُ الضَّحَّاكِ بِظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَالْكَلَامُ عَلَيْهِ مِنْ وُجُوهٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّهُ تَعَالَى قال: امَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ
فَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ رُسُلَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ تَكُونُ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ هَذَا الْمَجْمُوعِ وَإِذَا كَانَ الرُّسُلُ مِنَ الْإِنْسِ كَانَ الرُّسُلُ بَعْضًا مِنْ أَبْعَاضِ ذَلِكَ الْمَجْمُوعِ فَكَانَ هَذَا الْقَدْرُ كَافِيًا فِي حَمْلِ اللَّفْظِ عَلَى ظَاهِرِهِ فَلَمْ يَلْزَمْ مِنْ ظَاهِرِ هَذِهِ الْآيَةِ إِثْبَاتُ رَسُولٍ مِنَ الْجِنِّ. الثَّانِي: لَا يَبْعُدُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ الرُّسُلَ كَانُوا مِنَ الْإِنْسِ إِلَّا أَنَّهُ تَعَالَى كَانَ يُلْقِي الدَّاعِيَةَ فِي قُلُوبِ قَوْمٍ مِنَ الْجِنِّ حَتَّى يَسْمَعُوا كَلَامَ الرُّسُلِ وَيَأْتُوا قَوْمَهُمْ مِنَ الْجِنِّ وَيُخْبِرُونَهُمْ بِمَا سَمِعُوهُ مِنَ الرُّسُلِ وَيُنْذِرُونَهُمْ بِهِ كَمَا قَالَ تَعَالَى: وَإِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ [الْأَحْقَافِ:
٢٩] فَأُولَئِكَ الْجِنُّ كَانُوا رُسُلَ الرُّسُلِ فَكَانُوا رُسُلًا لِلَّهِ تَعَالَى وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ: أَنَّهُ تَعَالَى سَمَّى رُسُلَ عِيسَى رُسُلَ نَفْسِهِ. فَقَالَ: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ [يس: ١٤] وَتَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهِ أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا بَكَّتَ الْكُفَّارَ بِهَذِهِ الْآيَةِ لِأَنَّهُ تَعَالَى أَزَالَ الْعُذْرَ وَأَزَاحَ الْعِلَّةَ بِسَبَبِ أَنَّهُ أَرْسَلَ الرُّسُلَ إِلَى الْكُلِّ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَإِذَا وَصَلَتِ الْبِشَارَةُ وَالنِّذَارَةُ إِلَى الْكُلِّ بِهَذَا الطَّرِيقِ فَقَدْ حَصَلَ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ مِنْ إِزَاحَةِ الْعُذْرِ وَإِزَالَةِ الْعِلَّةِ فَكَانَ الْمَقْصُودُ حَاصِلًا.
الْوَجْهُ الثَّالِثُ: فِي الْجَوَابِ قال الواحدي: قوله تعالى: سُلٌ مِنْكُمْ
أَرَادَ مِنْ أَحَدِكُمْ وَهُوَ الْإِنْسُ وَهُوَ كَقَوْلِهِ: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ [الرَّحْمَنِ: ٢٢] أَيْ مِنْ أَحَدِهِمَا وَهُوَ الْمِلْحُ الَّذِي لَيْسَ بِعَذْبٍ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ لَا حَاجَةَ مَعَهُمَا إِلَى تَرْكِ الظَّاهِرِ أَمَّا هَذَا الثَّالِثُ فَإِنَّهُ يُوجِبُ تَرْكَ الظَّاهِرِ وَلَا يَجُوزُ الْمَصِيرُ إِلَيْهِ الا بالدليل المنفصل.
اما قوله: قُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي
فَالْمُرَادُ مِنْهُ التَّنْبِيهُ عَلَى الْأَدِلَّةِ بالتلاوة وبالتأويل: يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا
أَيْ يُخَوِّفُونَكُمْ عَذَابَ هَذَا الْيَوْمِ فَلَمْ يَجِدُوا عِنْدَ ذَلِكَ إِلَّا الِاعْتِرَافَ فَلِذَلِكَ قَالُوا: شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا.
فَإِنْ قَالُوا: مَا السَّبَبُ فِي أَنَّهُمْ أَقَرُّوا فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِالْكُفْرِ وَجَحَدُوهُ فِي قَوْلِهِ: وَاللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ [الانعام: ٢٣] .
قُلْنَا: يَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ طَوِيلٌ وَالْأَحْوَالُ فِيهِ مُخْتَلِفَةٌ فَتَارَةً يُقِرُّونَ وَأُخْرَى يَجْحَدُونَ وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى شِدَّةِ خَوْفِهِمْ وَاضْطِرَابِ أَحْوَالِهِمْ فَإِنَّ مَنْ عَظُمَ خَوْفُهُ كَثُرَ الِاضْطِرَابُ فِي كَلَامِهِ.
ثُمَّ قال تعالى: غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا
وَالْمَعْنَى أَنَّهُمْ لَمَّا أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى يَقُولُ:
وَإِنَّمَا وَقَعُوا فِي ذَلِكَ الْكُفْرِ بِسَبَبِ أَنَّهُمْ غَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدنيا.
ثم قال تعالى: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
وَالْمُرَادُ أَنَّهُمْ وَإِنْ بَالَغُوا فِي عَدَاوَةِ الْأَنْبِيَاءِ وَالطَّعْنِ فِي شَرَائِعِهِمْ وَمُعْجِزَاتِهِمْ إِلَّا أَنَّ عَاقِبَةَ أَمْرِهِمْ أَنَّهُمْ أَقَرُّوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ حمل قوله: شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ
بِأَنْ تَشْهَدَ عَلَيْهِمُ الْجَوَارِحُ بِالشِّرْكِ وَالْكُفْرِ وَمَقْصُودُهُمْ دَفْعُ التَّكْرَارِ عَنِ الْآيَةِ وَكَيْفَمَا كَانَ فَالْمَقْصُودُ مِنْ شَرْحِ أَحْوَالِهِمْ فِي الْقِيَامَةِ زَجْرُهُمْ فِي الدُّنْيَا عَنِ الكفر والمعصية.