للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

عَلَى الْكُفْرِ وَلَمْ يَنْتَفِعُوا بِتِلْكَ الْآيَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ تَقْرِيرُ مَا ذَكَرْنَاهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ أَنَّ تِلْكَ الْآيَاتِ الْقَاهِرَةِ لَوْ جَاءَتْهُمْ لَمَا آمَنُوا بِهَا وَلَمَا انْتَفَعُوا بِظُهُورِهَا الْبَتَّةَ.

أَجَابَ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ بِأَنْ قَالَ: الْمُرَادُ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي جَهَنَّمَ عَلَى لهب النار وجمرها لنعذبهم كما لم يأمنوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فِي دَارِ الدُّنْيَا.

وَأَجَابَ الْكَعْبِيُّ عَنْهُ: بِأَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ بِأَنَّا لَا نَفْعَلُ بِهِمْ مَا نَفْعَلُهُ بِالْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْفَوَائِدِ وَالْأَلْطَافِ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوا أَنْفُسَهُمْ عَنْ هَذَا الْحَدِّ بِسَبَبِ كُفْرِهِمْ.

وَأَجَابَ الْقَاضِي: بِأَنَّ الْمُرَادَ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ فِي الْآيَاتِ الَّتِي قَدْ ظَهَرَتْ فَلَا تَجِدُهُمْ يُؤْمِنُونَ بِهَا آخِرًا كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَا أَوَّلًا.

وَاعْلَمْ أَنَّ كُلَّ هَذِهِ الْوُجُوهِ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ وَلَيْسَ لِأَحَدٍ أَنْ يَعِيبَنَا فَيَقُولَ: إِنَّكُمْ تُكَرِّرُونَ هَذِهِ الْوُجُوهَ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ فَإِنَّا نَقُولُ: إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُعْتَزِلَةَ لَهُمْ وُجُوهٌ مَعْدُودَةٌ فِي تَأْوِيلَاتِ آيَاتِ الْجَزَاءِ فَهُمْ يُكَرِّرُونَهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَحْنُ أَيْضًا نُكَرِّرُ الْجَوَابَ عَنْهَا فِي كُلِّ آيَةٍ فَنَقُولُ: قَدْ بَيَّنَّا أَنَّ الْقُدْرَةَ الْأَصْلِيَّةَ صَالِحَةٌ لِلضِّدَّيْنِ وَلِلطَّرَفَيْنِ عَلَى السَّوِيَّةِ. فَإِذَا لَمْ يَنْضَمَّ عَلَى تِلْكَ الْقُدْرَةِ دَاعِيَةٌ مُرَجِّحَةٌ امْتَنَعَ حُصُولُ الرُّجْحَانِ فَإِذَا انْضَمَّتِ الدَّاعِيَةُ الْمُرَجِّحَةُ إِمَّا إِلَى جَانِبِ الْفِعْلِ أَوْ إِلَى جَانِبِ التَّرْكِ ظَهَرَ الرُّجْحَانُ وَتِلْكَ الدَّاعِيَةُ لَيْسَتْ إِلَّا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى قَطْعًا لِلتَّسَلْسُلِ. وَقَدْ ظَهَرَ صِحَّةُ هَذِهِ الْمُقَدِّمَاتِ بِالدَّلَائِلِ الْقَاطِعَةِ الْيَقِينِيَّةِ الَّتِي لَا يَشُكُّ فِيهَا الْعَاقِلُ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ

قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «قَلْبُ الْمُؤْمِنِ بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يُقَلِّبُهُ كَيْفَ يَشَاءُ»

فَالْقَلْبُ كَالْمَوْقُوفِ بَيْنَ دَاعِيَةِ الْفِعْلِ وَبَيْنَ دَاعِيَةِ التَّرْكِ فَإِنْ حَصَلَ فِي الْقَلْبِ دَاعِي الْفِعْلِ تَرَجَّحَ جَانِبُ الْفِعْلِ وَإِنْ حَصَلَ فِيهِ دَاعِي التَّرْكِ تَرَجَّحَ جَانِبُ التَّرْكِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ لَمَّا كَانَتَا لَا تَحْصُلَانِ إِلَّا بِإِيجَادِ اللَّهِ وَتَخْلِيقِهِ وَتَكْوِينِهِ عَبَّرَ عَنْهُمَا بِأُصْبُعَيِ الرَّحْمَنِ وَالسَّبَبُ فِي حُسْنِ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةِ أَنَّ الشَّيْءَ الَّذِي يَحْصُلُ بَيْنَ أُصْبُعَيِ الْإِنْسَانِ يَكُونُ كَامِلَ الْقُدْرَةِ عَلَيْهِ.

فَإِنْ شَاءَ أَمْسَكَهُ وان شاء اسقطه فههنا أَيْضًا كَذَلِكَ الْقَلْبُ وَاقِفٌ بَيْنَ هَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ وَهَاتَانِ الدَّاعِيَتَانِ حَاصِلَتَانِ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى وَالْقَلْبُ مُسَخَّرٌ لِهَاتَيْنِ الدَّاعِيَتَيْنِ فَلِهَذَا السَّبَبِ حَسُنَتْ هَذِهِ الِاسْتِعَارَةُ

وَكَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ يَقُولُ: «يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ وَالْأَبْصَارِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ»

وَالْمُرَادُ مِنْ

قَوْلِهِ- مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ-

أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُقَلِّبُهُ تَارَةً مِنْ دَاعِي الْخَيْرِ إِلَى دَاعِي الشَّرِّ وَبِالْعَكْسِ.

إِذَا عَرَفْتَ هَذِهِ الْقَاعِدَةَ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصارَهُمْ مَحْمُولٌ عَلَى هَذَا الْمَعْنَى الظَّاهِرِ الْجَلِيِّ الَّذِي يَشْهَدُ بِصِحَّتِهِ كُلُّ طَبْعٍ سَلِيمٍ وَعَقْلٍ مُسْتَقِيمٍ فَلَا حَاجَةَ الْبَتَّةَ إِلَى مَا ذَكَرُوهُ مِنَ التَّأْوِيلَاتِ الْمُسْتَكْرَهَةِ.

وَإِنَّمَا قَدَّمَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرَ تَقْلِيبِ الْأَفْئِدَةِ عَلَى تَقْلِيبِ الْأَبْصَارِ لِأَنَّ مَوْضِعَ الدَّوَاعِي وَالصَّوَارِفِ هُوَ الْقَلْبُ. فَإِذَا حَصَلَتِ الدَّاعِيَةُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ الْبَصَرُ إِلَيْهِ شَاءَ أَمْ أَبَى وَإِذَا حَصَلَتِ الصَّوَارِفُ فِي الْقَلْبِ انْصَرَفَ/ الْبَصَرُ عَنْهُ فَهُوَ وَإِنْ كَانَ يُبْصِرُهُ فِي الظَّاهِرِ. إِلَّا أَنَّهُ لَا يَصِيرُ ذَلِكَ الْإِبْصَارُ سَبَبًا لِلْوُقُوفِ عَلَى الْفَوَائِدِ الْمَطْلُوبَةِ. وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنْ قوله تعالى: وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذانِهِمْ وَقْراً فَلَمَّا كَانَ الْمَعْدِنُ هُوَ الْقَلْبَ وَأَمَّا السَّمْعُ وَالْبَصَرُ فَهُمَا آلَتَانِ لِلْقَلْبِ كَانَا لَا مَحَالَةَ تَابِعَيْنِ لِأَحْوَالِ الْقَلْبِ. فَلِهَذَا السَّبَبِ وَقَعَ الِابْتِدَاءُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْقُلُوبِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ ثُمَّ أَتْبَعَهُ بِذِكْرِ تَقْلِيبِ الْبَصَرِ وَفِي الْآيَةِ الْأُخْرَى وقع

<<  <  ج: ص:  >  >>