قَالَ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها بِالْفَتْحِ لَصَارَ ذَلِكَ عُذْرًا لَهُمْ هَذَا كَلَامُ الْخَلِيلِ. وَتَفْسِيرُهُ إِنَّمَا يَظْهَرُ بِالْمِثَالِ فَإِذَا اتَّخَذْتَ ضِيَافَةً وَطَلَبْتَ مِنْ رَئِيسِ الْبَلَدِ أَنْ يَحْضُرَ فَلَمْ يَحْضُرْ فَقِيلَ لَكَ لَوْ ذَهَبْتَ أَنْتَ بِنَفْسِكَ إِلَيْهِ لَحَضَرَ فَإِذَا قُلْتَ: وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنِّي لَوْ ذَهَبْتُ إِلَيْهِ لَحَضَرَ كَانَ الْمَعْنَى: أَنِّي لَوْ ذَهَبْتُ إِلَيْهِ بِنَفْسِي فَإِنَّهُ لَا يَحْضُرُ أَيْضًا فَكَذَا هَاهُنَا قَوْلُهُ: وَما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ آمَنُوا. وَذَلِكَ يُوجِبُ مَجِيءَ هَذِهِ الْآيَاتِ وَيَصِيرُ هَذَا الْكَلَامُ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ وَالْمَقْصُودُ مِنَ الْآيَةِ دَفْعُ حُجَّتِهِمْ فِي طَلَبِ الْآيَاتِ فَهَذَا تَقْرِيرُ كَلَامِ الْخَلِيلِ وَقَرَأَ الْبَاقُونَ مِنَ الْقُرَّاءِ أَنَّها بِالْفَتْحِ وَفِي تَفْسِيرِهِ وُجُوهٌ: الْأَوَّلُ: قَالَ الْخَلِيلُ: (أَنَّ) بِمَعْنَى لَعَلَّ تَقُولُ الْعَرَبُ ائْتِ السُّوقَ أَنَّكَ تَشْتَرِي لَنَا شَيْئًا أَيْ لَعَلَّكَ فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ قَالَ الْوَاحِدِيُّ: (أَنَّ) بِمَعْنَى لَعَلَّ كَثِيرٌ فِي كَلَامِهِمْ قَالَ الشَّاعِرُ:
أَرِينِي جَوَادًا مَاتَ هَوْلًا لِأَنَّنِي ... أَرَى مَا تُرِينِي أَوْ بَخِيلًا مُخَلَّدَا
وَقَالَ آخَرُ:
هَلْ أَنْتُمْ عَاجِلُونَ بِنَا لِأَنَّا ... نَرَى الْعَرَصَاتِ أَوْ أَثَرَ الْخِيَامِ
وَقَالَ عَدِيُّ بْنُ حَاتِمٍ:
أَعَاذِلَ مَا يُدْرِيكَ أَنَّ مَنِيَّتِي ... إِلَى سَاعَةٍ فِي الْيَوْمِ أَوْ فِي ضُحَى الْغَدِ
وَقَالَ الْوَاحِدِيُّ: وَفَسَّرَ عَلِيٌّ- لَعَلَّ مَنِيَّتِي- رَوَى صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» أَيْضًا فِي هَذَا الْمَعْنَى قَوْلَ امْرِئِ الْقَيْسِ:
عُوجًا عَلَى الطَّلَلِ الْمُحِيلِ لِأَنَّنَا ... نَبْكِي الدِّيَارَ كَمَا بَكَى ابْنُ خِذَامِ
قَالَ صَاحِبُ «الْكَشَّافِ» وَيُقَوِّي هَذَا الْوَجْهَ قِرَاءَةُ أُبَيٍّ لَعَلَّهَا إِذَا جَاءَتْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ أَنْ تَجْعَلَ (لَا) صِلَةً وَمِثْلَهُ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ [الْأَعْرَافِ: ١٢] مَعْنَاهُ أَنْ تَسْجُدَ وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: وَحَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ [الْأَنْبِيَاءِ: ٩٥] أَيْ يَرْجِعُونَ فَكَذَا هَاهُنَا التَّقْدِيرُ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ يُؤْمِنُونَ وَالْمَعْنَى: أَنَّهَا لَوْ جَاءَتْ لَمْ يُؤْمِنُوا قَالَ الزَّجَّاجُ وَهَذَا الْوَجْهُ ضَعِيفٌ لِأَنَّ مَا كَانَ لَغْوًا يَكُونُ لَغْوًا عَلَى جَمِيعِ التَّقْدِيرَاتِ وَمَنْ قَرَأَ إِنَّهَا بِالْكَسْرِ فَكَلِمَةُ (لَا) فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ لَيْسَتْ بِلَغْوٍ فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ جَعْلُ هَذَا اللَّفْظِ لَغْوًا. قَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَغْوًا عَلَى أَحَدِ التَّقْدِيرَيْنِ وَيَكُونُ مُفِيدًا عَلَى التَّقْدِيرِ الثَّانِي؟ وَاخْتَلَفَ القراءة أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: لَا يُؤْمِنُونَ فَقَرَأَ بَعْضُهُمْ بِالْيَاءِ وَهُوَ الْوَجْهُ لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ قَوْمٌ مَخْصُوصُونَ وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ: وَلَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَلَيْسَ كُلُّ النَّاسِ بِهَذَا الْوَصْفِ وَالْمَعْنَى وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّهُمْ إذا جاءتهم الآية التي الَّتِي اقْتَرَحُوهَا لَمْ يُؤْمِنُوا فَالْوَجْهُ الْيَاءُ وَقَرَأَ حَمْزَةُ وَابْنُ عَامِرٍ بِالتَّاءِ وَهُوَ عَلَى الِانْصِرَافِ مِنَ الْغَيْبَةِ إِلَى الْخِطَابِ وَالْمُرَادُ بِالْمُخَاطِبِينَ فِي تُؤْمِنُونَ هُمُ الْغَائِبُونَ الْمُقْسِمُونَ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَذَهَبَ مُجَاهِدٌ وَابْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّكُمْ تُؤْمِنُونَ إِذَا جَاءَتْ وَهَذَا يُقَوِّي قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ تُؤْمِنُونَ بِالتَّاءِ. عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَوَّلًا: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْكُفَّارِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا. وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا ثَانِيًا: الْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ: وَما يُشْعِرُكُمْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ تَمَنَّوْا نُزُولَ الْآيَةِ لِيُؤْمِنَ الْمُشْرِكُونَ وَهُوَ الْوَجْهُ كَأَنَّهُ قِيلَ لِلْمُؤْمِنِينَ تَتَمَنَّوْنَ ذَلِكَ وَمَا يُدْرِيكُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ؟
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute