لَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا حَسَنًا سَلِمُوا مِنَ الْإِثْمِ، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مَفْعُولًا لِلْقَوْلِ لِأَنَّ مَفْعُولَ الْقَوْلِ هُوَ الْكَلَامُ، يُقَالُ قَالَ فُلَانٌ كَلَامًا، وَلَا يَكُونُ هَذَا مِنْ بَابِ ضَرْبَهُ سَوْطًا لأن المضروب هناك ليس هو السوط، وهاهنا الْقَوْلُ هُوَ الْكَلَامُ فَسَّرَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً [الْفَرْقَانِ: ٦٣] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: قِيلًا سَلاماً سَلاماً [الْوَاقِعَةِ: ٢١] .
ثَالِثُهَا: أَنْ يَكُونَ مَفْعُولَ فِعْلٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ نُبَلِّغُكَ سَلَامًا، لَا يُقَالُ عَلَى هَذَا إِنَّ الْمُرَادَ لَوْ كَانَ ذَلِكَ لَعَلِمَ كَوْنِهِمْ رُسُلَ اللَّهِ عِنْدَ السَّلَامِ فَمَا كَانَ يَقُولُ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ وَلَا كَانَ يُقَرِّبُ إِلَيْهِمُ الطَّعَامَ، وَلِمَا قَالَ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ [هود: ٧٠] لِأَنَّا نَقُولُ جَازَ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ قَالُوا: نُبَلِّغُكَ سَلَامًا وَلَمْ يَقُولُوا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى إِلَى أَنْ سَأَلَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِمَّنْ تُبَلِّغُونَ لِيَ السَّلَامَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْحَكِيمَ لَا يَأْتِي بِالْأَمْرِ الْعَظِيمِ إِلَّا بِالتَّدْرِيجِ فَلَمَّا كَانَتْ هَيْبَتُهُمْ عَظِيمَةً، فَلَوْ ضَمُّوا إِلَيْهِ الْأَمْرَ الْعَظِيمَ الذي هو السلام مِنَ اللَّهِ تَعَالَى لَانْزَعَجَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، ثُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ اشْتَغَلَ بِإِكْرَامِهِمْ عَنْ سُؤَالِهِمْ وَأَخَّرَ السُّؤَالَ إِلَى حِينِ الْفَرَاغِ فَنَكِرَهُمْ بَيْنَ السَّلَامِ وَالسُّؤَالِ عَمَّنْ مِنْهُ السَّلَامُ هَذَا وَجْهُ النَّصْبِ، وَأَمَّا الرَّفْعُ فَنَقُولُ يَحْتَمِلُ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْهُ السَّلَامُ الَّذِي هُوَ التَّحِيَّةُ وَهُوَ الْمَشْهُورُ أَيْضًا، وَحِينَئِذٍ يَكُونُ مُبْتَدَأً/ خَبَرُهُ مَحْذُوفٌ تَقْدِيرُهُ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ، وَكَوْنُ الْمُبْتَدَأِ نَكِرَةً يَحْتَمِلُ فِي قَوْلِ الْقَائِلِ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ وَوَيْلٌ لَهُ، أَوْ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ قَالَ جَوَابَهُ سَلَامٌ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ قَوْلًا يُسَلِّمُ بِهِ أَوْ يُنْبِئُ عَنِ السَّلَامَةِ فَيَكُونُ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ تَقْدِيرُهُ أَمْرِي سَلَامٌ بِمَعْنَى مُسَالَمَةٍ لَا تَعَلُّقَ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ لِأَنِّي لَا أَعْرِفُكُمْ، أَوْ يَكُونُ الْمُبْتَدَأُ قَوْلَكُمْ، وَتَقْدِيرُهُ قَوْلُكُمْ سَلَامٌ يُنْبِئُ عَنِ السَّلَامَةِ وَأَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَمَا خَطْبُكُمْ فَإِنَّ الْأَمْرَ أُشْكِلَ عَلَيَّ، وَهَذَا مَا يُحْتَمَلُ أَنْ يُقَالَ فِي النَّصْبِ وَالرَّفْعِ، وَأَمَّا الْفَرْقُ فَنَقُولُ أَمَّا عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَشْهُورِ وَهُوَ أَنَّ السَّلَامَ فِي الْمَوْضِعَيْنِ بِمَعْنَى التَّحِيَّةِ فَنَقُولُ الْفَرْقُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ وَمِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى.
أَمَّا مِنْ حَيْثُ اللَّفْظُ: فَنَقُولُ سَلَامٌ عَلَيْكَ إِنَّمَا جُوِّزَ وَاسْتُحْسِنَ لِكَوْنِهِ مُبْتَدَأً وَهُوَ نَكِرَةٌ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ كَالْمَتْرُوكِ عَلَى أَصْلِهِ لِأَنَّ الْأَصْلَ أَنْ يَكُونَ مَنْصُوبًا عَلَى تَقْدِيرِ أُسَلِّمُ سَلَامًا وَعَلَيْكَ يَكُونُ لِبَيَانِ مَنْ أُرِيدَ بِالسَّلَامِ، وَلَا يَكُونُ لَعَلَيْكَ حَظٌّ مِنَ الْمَعْنَى غَيْرَ ذَلِكَ الْبَيَانِ فَيَكُونُ كَالْخَارِجِ عَنِ الْكَلَامِ، وَالْكَلَامُ التَّامُّ أُسَلِّمُ سَلَامًا، كَمَا أَنَّكَ تَقُولُ ضَرَبْتُ زَيْدًا عَلَى السَّطْحِ يَكُونُ عَلَى السَّطْحِ خَارِجًا عَنِ الْفِعْلِ وَالْفَاعِلِ وَالْمَفْعُولِ لِبَيَانِ مُجَرَّدِ الظَّرْفِيَّةِ، فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ وَكَانَ السَّلَامُ وَالْأَدْعِيَةُ كَثِيرَ الْوُقُوعِ، قَالُوا نَعْدِلُ عَنِ الْجُمْلَةِ الْفِعْلِيَّةِ إِلَى الِاسْمِيَّةِ وَنَجْعَلُ لَعَلَيْكَ حَظًّا فِي الْكَلَامِ، فَنَقُولُ سَلَامٌ عَلَيْكَ، فَتَصِيرُ عَلَيْكَ لِفَائِدَةٍ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَهِيَ الْخَبَرِيَّةُ، وَيُتْرَكُ السَّلَامُ نَكِرَةً كَمَا كَانَ حَالُ النَّصْبِ، إِذَا عُلِمَ هَذَا فَالنَّصْبُ أَصْلٌ وَالرَّفْعُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، والأصل مقدم على المأخوذ منه، فقال:
فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قُدِّمَ الْأَصْلُ عَلَى الْمُتَفَرِّعِ مِنْهُ.
وَأَمَّا مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى: فَذَلِكَ لِأَنَّ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ عَلَيْهِمْ بِالْأَحْسَنِ، فَأَتَى بِالْجُمْلَةِ الِاسْمِيَّةِ فَإِنَّهَا أَدَلُّ عَلَى الدَّوَامِ وَالِاسْتِمْرَارِ، فَإِنَّ قَوْلَنَا جَلَسَ زَيْدٌ لَا يُنْبِئُ عَنْهُ لِأَنَّ الْفِعْلَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنَ الْإِنْبَاءِ عَنِ التَّجَدُّدِ وَالْحُدُوثِ وَلِهَذَا لَوْ قُلْتَ: اللَّهُ مَوْجُودٌ الْآنَ لَأَثْبَتَ الْعَقْلُ الدَّوَامَ إِذْ لَا يُنْبِئُ عَنِ التَّجَدُّدِ، وَلَوْ قَالَ قَائِلٌ: وُجِدَ اللَّهُ الْآنَ لَكَادَ يُنْكِرُهُ الْعَاقِلُ لِمَا بَيَّنَّا فَلَمَّا قَالُوا: سَلَامًا قَالَ: سَلَامُ عَلَيْكُمْ مُسْتَمِرٌّ دَائِمٌ، وَأَمَّا عَلَى قَوْلِنَا الْمُرَادُ الْقَوْلُ ذُو السَّلَامَةِ فَظَاهِرُ الْفَرْقِ، فَإِنَّهُمْ قَالُوا قَوْلًا ذَا سَلَامٍ، وَقَالَ لَهُمْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَلَامٌ أَيْ قَوْلُكُمْ ذُو سَلَامٍ وَأَنْتُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ فَالْتَبَسَ الْأَمْرُ عَلَيَّ، وَإِنْ قُلْنَا الْمُرَادُ أَمْرُ مُسَالَمَةٍ وَمُتَارَكَةٍ وَهُمْ سَلَّمُوا عَلَيْهِ تَسْلِيمًا، فَنَقُولُ فِيهِ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute