حُجَّةُ أَبِي حَنِيفَةَ رَحِمَهُ اللَّه: أَنَّ السَّبُعَ صَيْدٌ فَيَدْخُلُ تَحْتَ قَوْلِهِ لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا إِنَّهُ صَيْدٌ لِقَوْلِ الشَّاعِرِ:
لَيْثٌ تَرَبَّى رُبْيَةً فَاصْطِيدَا
وَلِقَوْلِ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ:
صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِبٌ وَثَعَالِبٌ ... وَإِذَا رَكِبْتُ فَصَيْدِيَ الْأَبْطَالُ
وَالْجَوَابُ: قَدْ بَيَّنَّا بِدَلَالَةِ الْآيَةِ أَنَّ مَا يَحْرُمُ أَكْلُهُ لَيْسَ بِصَيْدٍ، وَذَلِكَ لَا يُعَارِضُهُ شِعْرُ مَجْهُولٍ، وَأَمَّا شِعْرُ عَلِيٍّ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَغَيْرُ وَارِدٍ، لِأَنَّ عِنْدَنَا الثَّعْلَبَ حَلَالٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: حُرُمٌ جَمْعُ حَرَامٍ، وَفِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: قِيلَ حُرُمٌ أَيْ مُحْرِمُونَ بِالْحَجِّ، وَقِيلَ: وَقَدْ دَخَلْتُمُ الْحَرَمَ، وَقِيلَ: هُمَا مُرَادَانِ بِالْآيَةِ، وَهَلْ يَدْخُلُ فِيهِ الْمُحْرِمُ بِالْعُمْرَةِ فِيهِ خِلَافٌ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ لَا تَقْتُلُوا يُفِيدُ الْمَنْعَ مِنَ الْقَتْلِ ابْتِدَاءً، وَالْمَنْعَ مِنْهُ تَسَبُّبًا، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَعَرَّضَ إِلَى الصَّيْدِ مَا دَامَ مُحْرِمًا لَا بِالسِّلَاحِ وَلَا بِالْجَوَارِحِ مِنَ الْكِلَابِ وَالطُّيُورِ سَوَاءٌ كَانَ الصَّيْدُ صَيْدَ الْحِلِّ أَوْ صَيْدَ الْحَرَمِ، وَأَمَّا الْحَلَالُ فَلَهُ أَنْ يَتَصَيَّدَ فِي الْحِلِّ وَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَتَصَيَّدَ فِي الْحَرَمِ، وَإِذَا قُلْنَا وَأَنْتُمْ حُرُمٌ يَتَنَاوَلُ الْأَمْرَيْنِ أَعْنِي مَنْ كَانَ مُحْرِمًا وَمَنْ كَانَ دَاخِلًا فِي الْحَرَمِ كَانَتِ الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْأَحْكَامِ.
ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَرَأَ عَاصِمٌ وَحَمْزَةُ وَالْكِسَائِيُّ فَجَزَاءٌ بِالتَّنْوِينِ ومثل بِالرَّفْعِ وَالْمَعْنَى فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ مُمَاثِلٌ لِلْمَقْتُولِ مِنَ الصَّيْدِ فَمِثْلُ مَرْفُوعٌ لِأَنَّهُ صِفَةٌ لِقَوْلِهِ فَجَزاءٌ قَالَ وَلَا يَنْبَغِي إِضَافَةُ جَزَاءٍ إِلَى الْمِثْلِ. أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَيْسَ عَلَيْهِ جَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ، فِي الْحَقِيقَةِ إِنَّمَا عَلَيْهِ جَزَاءُ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءٌ مِثْلُ الْمَقْتُولِ الَّذِي لَمْ يَقْتُلْهُ وَقَوْلُهُ تَعَالَى: مِنَ النَّعَمِ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةً لِلنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ جَزَاءٌ وَالْمَعْنَى فَجَزَاءٌ مِنَ النَّعَمِ مِثْلُ مَا قَتَلَ، وَأَمَّا سائر القراء فهم قرءوا فَجَزاءٌ مِثْلُ عَلَى إِضَافَةِ الْجَزَاءِ إِلَى الْمِثْلِ وَقَالُوا: إِنَّهُ وَإِنْ كَانَ الْوَاجِبُ عَلَيْهِ جَزَاءَ الْمَقْتُولِ لَا جَزَاءَ مِثْلِهِ فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ: أَنَا أُكْرِمُ مِثْلَكَ يُرِيدُونَ أَنَا أُكْرِمُكَ وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشُّورَى: ١١] وَالتَّقْدِيرُ: لَيْسَ هُوَ كَشَيْءٍ، وَقَالَ: أَوَمَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَجَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ [الْأَنْعَامِ: ١٢٢] وَالتَّقْدِيرُ: كَمَنْ هُوَ فِي الظُّلُمَاتِ وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْمَعْنَى فَجَزَاءُ مِثْلِ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ كَقَوْلِكَ خَاتَمُ فِضَّةٍ أَيْ خَاتَمٌ مِنْ فِضَّةٍ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ: الْمُحْرِمُ إِذَا قَتَلَ الصَّيْدَ خَطَأً لَا يَلْزَمُهُ شَيْءٌ وَهُوَ قَوْلُ دَاوُدَ وَقَالَ جُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ: يَلْزَمُهُ الضَّمَانُ سَوَاءٌ قَتَلَ عَمْدًا أَوْ خَطَأً حُجَّةُ دَاوُدَ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً مَذْكُورٌ فِي مَعْرِضِ الشَّرْطِ، وَعِنْدَ عَدَمِ الشَّرْطِ يَلْزَمُ عَدَمُ الْمَشْرُوطِ فَوَجَبَ أَنْ لَا يَجِبَ الْجَزَاءُ عِنْدَ فِقْدَانِ الْعَمْدِيَّةِ قَالَ: وَالَّذِي يُؤَكِّدُ هَذَا أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ فِي آخِرِ الْآيَةِ وَمَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَالِانْتِقَامُ إِنَّمَا يَكُونُ فِي الْعَمْدِ دُونَ الْخَطَأِ وَقَوْلُهُ وَمَنْ عادَ الْمُرَادُ مِنْهُ وَمَنْ عَادَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنَ الْقَتْلِ الْمُوجِبِ لِلْجَزَاءِ هُوَ الْعَمْدُ لَا الْخَطَأُ وَحُجَّةُ الْجُمْهُورِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً [الْمَائِدَةِ: ٩٦] وَلَمَّا كَانَ ذَلِكَ حَرَامًا بِالْإِحْرَامِ صَارَ فِعْلُهُ مَحْظُورًا بِالْإِحْرَامِ فَلَا يَسْقُطُ حُكْمُهُ بِالْخَطَأِ وَالْجَهْلِ كما
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute