الْحَمِيمَ وَالْغَسَّاقَ، وَهُمُ الَّذِينَ قَالَ اللَّه تَعَالَى فِيهِمْ عامِلَةٌ ناصِبَةٌ [الْغَاشِيَةِ: ٣] ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً [الْكَهْفِ: ١٠٤] ، وَقَدِمْنا إِلى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ [الْفُرْقَانِ: ٢٣] وَقِيلَ نَزَلَتْ فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ بْنِ أُمَيَّةَ، كَانَ قَدْ تَعَبَّدَ وَلَبِسَ الْمُسُوحَ وَالْتَمَسَ الدِّينَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ثُمَّ كَفَرَ فِي الْإِسْلَامِ.
أَمَّا قَوْلُهُ: وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ فَذَاكَ لِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ عَالِمٌ بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ فَلَا يَشُقُّ عَلَيْهِ الْحِسَابُ، وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَكَلِّمِينَ مَعْنَاهُ لَا يَشْغَلُهُ مُحَاسَبَةُ وَاحِدٍ عَنْ آخَرٍ كَنَحْنُ، وَلَوْ كَانَ يَتَكَلَّمُ بِآلَةٍ كَمَا يَقُولُهُ الْمُشَبِّهَةُ لَمَا صَحَّ ذَلِكَ، وَأَمَّا الْمَثَلُ الثَّانِي فَهُوَ قَوْلُهُ: أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ وفي لفظة (أو) هاهنا وُجُوهٌ: أَحَدُهَا: اعْلَمْ أَنَّ اللَّه تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّ أَعْمَالَ الْكُفَّارِ إِنْ كَانَتْ حَسَنَةً فَمِثْلُهَا السَّرَابُ وَإِنْ كَانَتْ قَبِيحَةً فَهِيَ الظُّلُمَاتُ وَثَانِيهَا: تَقْدِيرُ الْكَلَامِ أَنَّ أَعْمَالَهُمْ إِمَّا كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ وَذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ وَإِمَّا كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ وَذَلِكَ فِي الدُّنْيَا وَثَالِثُهَا: الْآيَةُ الْأُولَى فِي ذِكْرِ أَعْمَالِهِمْ وَأَنَّهُمْ لَا يَتَحَصَّلُونَ مِنْهَا عَلَى شَيْءٍ، وَالْآيَةُ الثَّانِيَةُ فِي ذِكْرِ عَقَائِدِهِمْ فَإِنَّهَا تشبه الظلمات كما قال: يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ [البقرة: ٢٥٧] أَيْ مِنَ الْكُفْرِ إِلَى الْإِيمَانِ يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى:
وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ [النور: ٤٠] وَأَمَّا الْبَحْرُ اللُّجِّيُّ فَهُوَ ذُو اللُّجَّةِ الَّتِي هِيَ مُعْظَمُ الْمَاءِ الْغَمْرِ الْبَعِيدِ الْقَعْرِ، وَفِي اللُّجِّيِّ لُغَتَانِ كَسْرُ اللَّامِ وَضَمُّهَا، وَأَمَّا تَقْرِيرُ الْمِثْلِ فَهُوَ أَنَّ الْبَحْرَ اللُّجِّيَّ يَكُونُ قَعْرُهُ مُظْلِمًا جِدًّا بِسَبَبِ غُمُورَةِ الْمَاءِ، فَإِذَا تَرَادَفَتْ عَلَيْهِ الْأَمْوَاجُ ازْدَادَتِ الظُّلْمَةُ فَإِذَا كَانَ فَوْقَ الْأَمْوَاجِ سَحَابٌ بَلَغَتِ الظُّلْمَةُ النِّهَايَةَ الْقُصْوَى، فَالْوَاقِعُ فِي قَعْرِ هَذَا الْبَحْرِ اللُّجِّيِّ يَكُونُ فِي نِهَايَةِ شِدَّةِ الظُّلْمَةِ، وَلَمَّا كَانَتِ الْعَادَةُ فِي الْيَدِ أَنَّهَا مِنْ أَقْرَبِ مَا يَرَاهَا وَمِنْ أَبْعَدِ مَا يَظُنُّ أَنَّهُ لَا يَرَاهَا فَقَالَ تَعَالَى: لَمْ يَكَدْ يَراها وَبَيَّنَ سُبْحَانَهُ بِهَذَا البلوغ تِلْكَ الظُّلْمَةِ إِلَى أَقْصَى النِّهَايَاتِ ثُمَّ شَبَّهَ بِهِ الْكَافِرَ فِي اعْتِقَادِهِ وَهُوَ ضِدُّ الْمُؤْمِنِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: نُورٌ عَلى نُورٍ [النُّورِ: ٣٥] وَفِي قَوْلِهِ: يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمانِهِمْ [الْحَدِيدِ: ١٢] وَلِهَذَا قَالَ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ الْكَافِرُ يَتَقَلَّبُ فِي خَمْسٍ مِنَ الظُّلَمِ كَلَامُهُ وَعَمَلُهُ وَمَدْخَلُهُ وَمَخْرَجُهُ وَمَصِيرُهُ إِلَى النَّارِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ هَذَا التَّشْبِيهِ وُجُوهٌ أُخَرُ: أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّه تَعَالَى ذَكَرَ ثَلَاثَةَ أَنْوَاعٍ مِنَ الظُّلُمَاتِ ظُلْمَةَ الْبَحْرِ وَظُلْمَةَ الْأَمْوَاجِ وَظُلْمَةَ السَّحَابِ وَكَذَا الْكَافِرُ لَهُ ظُلُمَاتٌ ثَلَاثَةٌ ظُلْمَةُ الِاعْتِقَادِ وَظُلْمَةُ الْقَوْلِ وَظُلْمَةُ الْقَوْلِ وَظُلْمَةُ الْعَمَلِ عَنِ الْحَسَنِ وَثَانِيهَا: شَبَّهُوا قَلْبَهُ وَبَصَرَهُ وَسَمْعَهُ بِهَذِهِ الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّ الْكَافِرَ لَا يدري أنه وَلَا يَدْرِي أَنَّهُ لَا يَدْرِي وَيَعْتَقِدُ أَنَّهُ يدري، فهذه المراتب الثالث تُشْبِهُ تِلْكَ الظُّلُمَاتِ وَرَابِعُهَا: أَنَّ هَذِهِ الظُّلُمَاتِ متراكمة فكذا الكفار لِشِدَّةِ إِصْرَارِهِ عَلَى كُفْرِهِ، قَدْ تَرَاكَمَتْ عَلَيْهِ/ الضَّلَالَاتُ حَتَّى أَنَّ أَظْهَرَ الدَّلَائِلِ إِذَا ذُكِرَتْ عِنْدَهُ لَا يَفْهَمُهَا وَخَامِسُهَا: قَلْبٌ مُظْلِمٌ فِي صَدْرٍ مُظْلِمٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ كَثِيرٍ أَنَّهُ قَرَأَ (سَحَابٍ) وَقَرَأَ (ظُلُمَاتٍ) بِالْجَرِّ عَلَى الْبَدَلِ مِنْ قَوْلِهِ: أَوْ كَظُلُماتٍ وَعَنْهُ أَيْضًا أَنَّهُ قَرَأَ سَحابٌ ظُلُماتٌ كَمَا يُقَالُ سَحَابُ رَحْمَةٍ وَسَحَابُ عَذَابٍ عَلَى الْإِضَافَةِ وَقِرَاءَةُ الْبَاقِينَ سَحابٌ ظُلُماتٌ كِلَاهُمَا بِالرَّفْعِ وَالتَّنْوِينِ وَتَمَامُ الْكَلَامِ عِنْدَ قَوْلِهِ: سَحابٌ ثُمَّ ابْتَدَأَ ظُلُماتٌ أَيْ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ.
أَمَّا قَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها فَفِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ كَادَ نَفْيُهُ إِثْبَاتٌ وَإِثْبَاتُهُ نَفْيٌ فَقَوْلُهُ: وَما كادُوا يَفْعَلُونَ [الْبَقَرَةِ: ٧١] نَفْيٌ فِي اللَّفْظِ وَلَكِنَّهُ إِثْبَاتٌ فِي الْمَعْنَى لِأَنَّهُمْ فَعَلُوا ذَلِكَ
وَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا»
إِثْبَاتٌ فِي اللَّفْظِ لَكِنَّهُ نَفْيٌ فِي المعنى لأنه لم يكفر فكذا هاهنا قَوْلُهُ: لَمْ يَكَدْ يَراها
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute