وَالْمُسَاوِي، وَاحْتَجَّ الْأَوَّلُونَ بِالْقُرْآنِ وَالْخَبَرِ وَالْقِيَاسِ، أَمَّا الْقُرْآنُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى: وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ثُمَّ قَالَ بَعْدَ ذَلِكَ: فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ فَوَجَبَ أَنَّ يَكُونَ هَذَا رَاجِعًا إِلَى مَا آتَاهَا:
وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ لَمْ يَدْخُلْ فِي إِبَاحَةِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَّا قَدْرُ مَا آتَاهَا مِنَ الْمَهْرِ، وَأَمَّا الْخَبَرُ
رُوِّينَا أَنَّ ثَابِتًا لَمَّا طَلَبَ مِنْ جَمِيلَةَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيْهِ حَدِيقَتَهُ، فَقَالَتْ جَمِيلَةُ وَأَزِيدُهُ، فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَا حَدِيقَتُهُ فَقَطْ،
وَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ بِالزَّائِدِ جَائِزًا لَمَا جَازَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْهُ، وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَهُوَ أَنَّهُ اسْتَبَاحَ بَعْضَهَا، فَلَوْ أَخَذَ مِنْهَا أَزْيَدَ مِمَّا دَفَعَ إِلَيْهَا لَكَانَ ذَلِكَ إحجافا بِجَانِبِ الْمَرْأَةِ وَإِلْحَاقًا لِلضَّرَرِ بِهَا، وَإِنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ، وَأَمَّا سَائِرُ الْفُقَهَاءِ فَإِنَّهُمْ قَالُوا الْخُلْعُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يُتَقَيَّدَ بِمِقْدَارٍ مُعَيَّنٍ، فَكَمَا أَنَّ لِلْمَرْأَةِ أَنْ لَا تَرْضَى عِنْدَ النِّكَاحِ إِلَّا بِالصَّدَاقِ الْكَثِيرِ، فَكَذَا لِلزَّوْجِ أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الْكَثِيرِ، لَا سِيَّمَا وَقَدْ أَظْهَرَتْ الِاسْتِخْفَافَ بِالزَّوْجِ، حَيْثُ أَظْهَرَتْ بُغْضَهُ وَكَرَاهَتَهُ، وَيَتَأَكَّدُ هَذَا بِمَا
رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ رَفَعَتْ إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحسبها فِي بَيْتِ الزِّبْلِ لَيْلَتَيْنِ، ثُمَّ قَالَ لَهَا: كَيْفَ حَالُكِ؟ فَقَالَتْ: مَا بِتُّ أَطْيَبَ مِنْ هَاتَيْنِ اللَّيْلَتَيْنِ، فَقَالَ عُمَرُ: اخْلَعْهَا وَلَوْ بِقُرْطِهَا،
وَالْمُرَادُ اخْلَعْهَا حَتَّى بِقُرْطِهَا وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ أَنَّهُ جَاءَتْهُ امْرَأَةٌ قَدِ اخْتَلَعَتْ مِنْ زَوْجِهَا بِكُلِّ شَيْءٍ وَبِكُلِّ ثَوْبٍ عَلَيْهَا إِلَّا دِرْعَهَا، فلم ينكر عليها.
المسألة السابعة:
الْخُلْعُ تَطْلِيقَةٌ بَائِنَةٌ وَهُوَ قَوْلُ عَلِيٍّ
وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ وَالْحَسَنِ وَالشَّعْبِيِّ وَالنَّخَعِيِّ وَعَطَاءٍ وَابْنِ الْمُسَيَّبِ وَشُرَيْحٍ وَمُجَاهِدٍ وَمَكْحُولٍ وَالزُّهْرِيِّ، وَهُوَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَسُفْيَانَ، وَهُوَ أَحَدُ قَوْلَيِ الشَّافِعِيِّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَطَاوُسٌ وَعِكْرِمَةُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ: إِنَّهُ فَسْخٌ لِلْعَقْدِ، وَهُوَ الْقَوْلُ الثَّانِي لِلشَّافِعِيِّ، وَبِهِ قَالَ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ طَلَاقٌ أَنَّ الْأُمَّةَ مُجْمِعَةٌ عَلَى أَنَّهُ فَسْخٌ أَوْ طَلَاقٌ، فَإِذَا بَطَلَ كَوْنُهُ فَسْخًا ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّهُ لَيْسَ بِفَسْخٍ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فَسْخًا لَمَا صَحَّ بِالزِّيَادَةِ عَلَى الْمَهْرِ الْمُسَمَّى: كَالْإِقَالَةِ فِي الْبَيْعِ، وَأَيْضًا لَوْ كَانَ الْخُلْعُ فَسْخًا فَإِذَا خَالَعَهَا وَلَمْ يَذْكُرِ الْمَهْرَ وَجَبَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهَا الْمَهْرُ، كَالْإِقَالَةِ، / فَإِنَّ الثَّمَنَ يَجِبُ رَدُّهُ، وَإِنْ لَمْ يُذْكَرْ وَلَمَّا لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِفَسْخٍ، وَإِذَا بَطَلَ ذَلِكَ ثَبَتَ أَنَّهُ طَلَاقٌ.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ إِنَّهُ لَيْسَ بِطَلَاقٍ وُجُوهٌ:
الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ ثُمَّ ذَكَرَ الطَّلَاقَ فَقَالَ: فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٠] فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ الطَّلَاقُ أَرْبَعًا، وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ نَقَلَهُ الْخَطَّابِيُّ فِي كِتَابِ مَعَالِمِ السُّنَنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: وَهُوَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِثَابِتِ بْنِ قَيْسِ بْنِ شَمَّاسٍ فِي مُخَالَعَةِ امْرَأَتِهِ، مَعَ أَنَّ الطَّلَاقَ فِي زَمَانِ الْحَيْضِ أَوْ فِي طُهْرٍ حَصَلَ الْجِمَاعُ فِيهِ حَرَامٌ، فَلَوْ كَانَ الْخُلْعُ طَلَاقًا لَكَانَ يَجِبُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْتَكْشِفَ الْحَالَ فِي ذَلِكَ، فَلَمَّا لَمْ يَسْتَكْشِفْ بَلْ أَمَرَهُ بِالْخُلْعِ مُطْلَقًا دَلَّ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ لَيْسَ بِطَلَاقٍ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ:
رَوَى أَبُو دَاوُدَ فِي «سُنَنِهِ» عَنْ عِكْرِمَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ امْرَأَةَ ثَابِتِ بْنِ قَيْسٍ لَمَّا اخْتَلَعَتْ مِنْهُ جَعَلَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِدَّتَهَا حَيْضَةً،
قَالَ الْخَطَّابِيُّ: وَهَذَا أَدَلُّ شَيْءٍ عَلَى أَنَّ الْخُلْعَ فَسْخٌ وَلَيْسَ بِطَلَاقٍ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: وَالْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ [البقرة: ٢٢٨] فَلَوْ كَانَتْ هَذِهِ مُطَلَّقَةً لَمْ يَقْتَصِرْ لَهَا عَلَى قُرْءٍ وَاحِدٍ.