سَمِعْتُ أَبَا الْعَبَّاسِ وَقَدْ سُئِلَ عَنِ الِاسْتِنْكَافِ فَقَالَ: هُوَ مِنَ النَّكْفِ، يُقَالُ مَا عَلَيْهِ فِي هَذَا الْأَمْرِ مِنْ نَكْفٍ وَلَا وَكْفٍ، وَالنَّكْفُ أَنْ يُقَالَ لَهُ سُوءٌ، وَاسْتَنْكَفَ إِذَا دَفَعَ ذَلِكَ السُّوءَ عَنْهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ:
رُوِيَ أَنَّ وَفْدَ نَجْرَانَ قَالُوا لِرَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لِمَ تَعِيبُ صَاحِبَنَا قَالَ: وَمَنْ صَاحِبُكُمْ؟ قَالُوا عِيسَى، قَالَ: وَأَيُّ شَيْءٍ قُلْتُ؟ قَالُوا تَقُولُ إِنَّهُ عَبْدُ اللَّه وَرَسُولُهُ، قَالَ إِنَّهُ/ لَيْسَ بِعَارٍ أَنْ يَكُونَ عَبْدَ اللَّه، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ،
وَأَنَا أَقُولُ: إِنَّهُ تَعَالَى لَمَّا أَقَامَ الْحُجَّةَ الْقَاطِعَةَ عَلَى أَنَّ عِيسَى عَبْدُ اللَّه، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ابْنًا لَهُ أَشَارَ بَعْدَهُ إِلَى حِكَايَةِ شُبْهَتِهِمْ وَأَجَابَ عَنْهَا، وَذَلِكَ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ الَّتِي عَلَيْهَا يُعَوِّلُونَ فِي إِثْبَاتِ أَنَّهُ ابْنُ اللَّه هُوَ أَنَّهُ كَانَ يُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ وَكَانَ يَأْتِي بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ مِنَ الْإِحْيَاءِ وَالْإِبْرَاءِ، فَكَأَنَّهُ تَعَالَى قال: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ
بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ عَنْ عِبَادَةِ اللَّه تَعَالَى فَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ الْمُقَرَّبِينَ أَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْعِلْمِ بِالْمُغَيَّبَاتِ لِأَنَّهُمْ مُطَّلِعُونَ عَلَى اللَّوْحِ الْمَحْفُوظِ، وَأَعْلَى حَالًا مِنْهُ فِي الْقُدْرَةِ لِأَنَّ ثَمَانِيَةً مِنْهُمْ حَمَلُوا الْعَرْشَ عَلَى عَظَمَتِهِ، ثُمَّ إِنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعَ كمال حالهم في العلوم والقدرة لا يَسْتَنْكِفُوا عَنْ عُبُودِيَّةِ اللَّه، فَكَيْفَ يَسْتَنْكِفُ الْمَسِيحُ عَنْ عُبُودِيَّتِهِ بِسَبَبِ هَذَا الْقَدْرِ الْقَلِيلِ الَّذِي كَانَ مَعَهُ مِنَ الْعِلْمِ وَالْقُدْرَةِ، وَإِذَا حَمَلْنَا الْآيَةَ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ صَارَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ مُتَنَاسِبَةً مُتَتَابِعَةً وَمُنَاظَرَةً شَرِيفَةً كَامِلَةً، فَكَانَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ أَوْلَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: اسْتَدَلَّ الْمُعْتَزِلَةُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ الْمَلَكَ أَفْضَلُ مِنَ الْبَشَرِ. وَقَدْ ذَكَرْنَا اسْتِدْلَالَهُمْ بِهَا فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ [الْبَقَرَةِ: ٣٤] وَأَجَبْنَا عَنْ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ بِوُجُوهٍ كثيرة، والذي نقول هاهنا: إِنَّا نُسَلِّمُ أَنَّ اطِّلَاعَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمُغَيَّبَاتِ أَكْثَرُ مِنَ اطِّلَاعِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا وَنُسَلِّمُ أَنَّ قُدْرَةَ الْمَلَائِكَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ فِي هَذَا الْعَالَمِ أَشَدُّ مِنْ قُدْرَةِ الْبَشَرِ، كَيْفَ وَيُقَالُ: إِنَّ جبريل قلع مدائن قوله لُوطٍ بِرِيشَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ جَنَاحِهِ إِنَّمَا النِّزَاعُ فِي أَنَّ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْمَلَائِكَةِ أَكْثَرُ أَمْ ثَوَابَ طَاعَاتِ الْبَشَرِ، وَهَذِهِ الْآيَةُ لَا تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الْبَتَّةَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ النَّصَارَى إِنَّمَا أَثْبَتُوا إِلَهِيَّةَ عِيسَى بِسَبَبِ أَنَّهُ أَخْبَرَ عَنِ الْغُيُوبِ وَأَتَى بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ. فَإِيرَادُ الْمَلَائِكَةِ لِأَجْلِ إِبْطَالِ هَذِهِ الشُّبْهَةِ إِنَّمَا يَسْتَقِيمُ إِذَا كَانَتِ الْمَلَائِكَةُ أَقْوَى حَالًا فِي هَذَا الْعِلْمِ، وَفِي هَذِهِ الْقُدْرَةِ مِنَ الْبَشَرِ، وَنَحْنُ نَقُولُ بِمُوجَبِهِ. فَأَمَّا أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ تَفْضِيلُ الْمَلَائِكَةِ عَلَى الْمَسِيحِ فِي كَثْرَةِ الثَّوَابِ عَلَى الطَّاعَاتِ فَذَلِكَ مِمَّا لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَوْضِعَ وَلَا يَلِيقُ بِهِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا الِاسْتِدْلَالَ إِنَّمَا قَوِيَ فِي الْأَوْهَامِ لِأَنَّ النَّاسَ مَا لَخَّصُوا مَحَلَّ النِّزَاعِ واللَّه أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: فِي الْآيَةِ سُؤَالٌ، وَهُوَ أَنَّ الْمَلَائِكَةَ مَعْطُوفُونَ عَلَى الْمَسِيحِ فَيَصِيرُ التَّقْدِيرُ: وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ فِي أَنْ يَكُونُوا عَبِيدًا للَّه وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ.
وَالْجَوَابُ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ المراد ولا كل واحد من المقربين. الثاني: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ أَنْ يكونوا عبيدا فحذف ذلك لدلالة قوله بْداً لِلَّهِ
عَلَيْهِ عَلَى طَرِيقِ الْإِيجَازِ.
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ:
قَرَأَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ (عبيد اللَّه) على التصغير.
المسألة السادسة: قوله لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ
يَدُلُّ عَلَى أَنَّ طَبَقَاتِ الْمَلَائِكَةِ مُخْتَلِفَةٌ فِي الدَّرَجَةِ وَالْفَضِيلَةِ فَالْأَكَابِرُ مِنْهُمْ مِثْلَ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ وَإِسْرَافِيلَ وَعِزْرَائِيلَ وَحَمَلَةِ الْعَرْشِ، وَقَدْ شَرَحْنَا طَبَقَاتِهِمْ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِهِ وَإِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ [الْبَقَرَةِ: ٣٠] .