للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

بِأَنْفُسِهَا، وَإِلَّا لَمَا جَوَّزُوا عَلَيْهَا أَنْ تَحِلَّ فِي الْغَيْرِ وَأَنْ تُفَارِقَ ذَلِكَ الْغَيْرَ مَرَّةً أُخْرَى، فَهُمْ وَإِنْ كَانُوا يُسَمُّونَهَا بِالصِّفَاتِ إِلَّا أَنَّهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ يُثْبِتُونَ ذَوَاتٍ مُتَعَدِّدَةً قَائِمَةً بِأَنْفُسِهَا، وَذَلِكَ مَحْضُ الْكُفْرِ، فَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ تَعَالَى: وَلا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا فَأَمَّا إِنْ حَمَلْنَا الثَّلَاثَةَ عَلَى أَنَّهُمْ يُثْبِتُونَ صِفَاتٍ ثَلَاثَةً، فَهَذَا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، وَكَيْفَ لَا نَقُولُ ذَلِكَ وَإِنَّا نَقُولُ: هُوَ اللَّه الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْعَالِمُ الْحَيُّ الْقَادِرُ الْمُرِيدُ، وَنَفْهَمُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ هَذِهِ الْأَلْفَاظِ غَيْرَ مَا نَفْهَمُهُ مِنَ اللَّفْظِ الْآخَرِ، وَلَا مَعْنَى لِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ إِلَّا ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْقَوْلُ بِتَعَدُّدِ الصِّفَاتِ كُفْرًا لَزِمَ رَدُّ جَمِيعِ الْقُرْآنِ وَلَزِمَ رَدُّ الْعَقْلِ مِنْ حَيْثُ أَنَّا نَعْلَمُ بِالضَّرُورَةِ أَنَّ الْمَفْهُومَ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى عَالِمًا غَيْرُ الْمَفْهُومِ مِنْ كَوْنِهِ تَعَالَى قَادِرًا أَوْ حَيًّا.

الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ ثَلاثَةٌ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُبْتَدَأِ عَلَى وُجُوهٍ الْأَوَّلُ:

مَا ذَكَرْنَاهُ، أَيْ وَلَا تَقُولُوا الْأَقَانِيمُ ثَلَاثَةٌ. الثَّانِي: قَالَ الزَّجَّاجُ: وَلَا تَقُولُوا آلِهَتُنَا ثَلَاثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْقُرْآنَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ النَّصَارَى يَقُولُونَ: إِنَّ اللَّه وَالْمَسِيحَ وَمَرْيَمَ ثَلَاثَةُ آلِهَةٍ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ [الْمَائِدَةِ: ١١٦] الثَّالِثُ: قَالَ الْفَرَّاءُ وَلَا تَقُولُوا هُمْ ثَلَاثَةٌ كقوله سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ [الكهف: ٢٢] وذلك لأن ذكر عِيسَى وَمَرْيَمَ مَعَ اللَّه تَعَالَى بِهَذِهِ الْعِبَارَةِ يُوهِمُ كَوْنَهُمَا إِلَهَيْنِ، وَبِالْجُمْلَةِ فَلَا نَرَى مَذْهَبًا فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ رَكَاكَةً وَبُعْدًا عَنِ الْعَقْلِ مِنْ/ مَذْهَبِ النَّصَارَى.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ وَقَدْ ذَكَرْنَا وَجْهَ انْتِصَابِهِ عِنْدَ قوله فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ.

ثُمَّ أَكَّدَ التَّوْحِيدَ بِقَوْلِهِ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ ثُمَّ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ بِقَوْلِهِ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ وَدَلَائِلُ تَنْزِيهِ اللَّه عَنِ الْوَلَدِ قَدْ ذَكَرْنَاهَا فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ وَفِي سُورَةِ مَرْيَمَ عَلَى الِاسْتِقْصَاءِ. وَقَرَأَ الْحَسَنُ: إِنْ يَكُونُ، بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ مِنْ أَنْ وَرَفْعِ النُّونِ مِنْ يَكُونَ، أَيْ سُبْحَانَهُ مَا يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ، وَعَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ فَالْكَلَامُ جُمْلَتَانِ.

ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: لَهُ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ نَزَّهَ نَفْسَهُ عَنِ الْوَلَدِ ذَكَرَ كَوْنَهُ مَلِكًا وَمَالِكًا لِمَا فِي السموات وَمَا فِي الْأَرْضِ فَقَالَ فِي مَرْيَمَ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً [مَرْيَمَ: ٩٣] وَالْمَعْنَى: مَنْ كَانَ مَالِكًا لكل السموات وَالْأَرْضِ وَلِكُلِّ مَا فِيهَا كَانَ مَالِكًا لِعِيسَى ولمريم لأنهما كانا في السموات وَفِي الْأَرْضِ، وَمَا كَانَا أَعْظَمَ مِنْ غَيْرِهِمَا فِي الذَّاتِ وَالصِّفَاتِ، وَإِذَا كَانَ مَالِكًا لِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُمَا فَبِأَنْ يَكُونَ مَالِكًا لَهُمَا أَوْلَى، وَإِذَا كَانَا مَمْلُوكَيْنِ لَهُ فَكَيْفَ يُعْقَلُ مَعَ هَذَا تَوَهُّمُ كَوْنِهِمَا لَهُ وَلَدًا وَزَوْجَةً.

ثُمَّ قَالَ: وَكَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا وَالْمَعْنَى أَنَّ اللَّه سُبْحَانَهُ كَافٍ فِي تَدْبِيرِ الْمَخْلُوقَاتِ وَفِي حِفْظِ الْمُحْدَثَاتِ فَلَا حَاجَةَ مَعَهُ إِلَى الْقَوْلِ بِإِثْبَاتِ إِلَهٍ آخَرَ، وَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى مَا يَذْكُرُهُ الْمُتَكَلِّمُونَ مِنْ أَنَّهُ سُبْحَانَهُ لَمَّا كَانَ عَالِمًا بِجَمِيعِ الْمَعْلُومَاتِ قَادِرًا عَلَى كُلِّ الْمَقْدُورَاتِ كَانَ كَافِيًا فِي الْإِلَهِيَّةِ، وَلَوْ فَرَضْنَا إِلَهًا آخَرَ مَعَهُ لَكَانَ مُعَطَّلًا لَا فَائِدَةَ فِيهِ، وَذَلِكَ نَقْصٌ، وَالنَّاقِصُ لَا يَكُونُ إِلَهًا.

ثُمَّ قال تعالى: نْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَلَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ

وَفِيهِ مَسَائِلُ:

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: قَالَ الزَّجَّاجُ: لَنْ يَسْتَنْكِفَ أَيْ لَنْ يَأْنَفَ، وَأَصْلُهُ فِي اللُّغَةِ مِنْ نَكَفْتُ الدَّمْعَ إِذَا نَحَّيْتَهُ بإصبعك عن خدك، فتأويل نْ يَسْتَنْكِفَ

أي لن يتنغص ولم يَمْتَنِعَ، وَقَالَ الْأَزْهَرِيُّ: سَمِعْتُ الْمُنْذِرِيَّ يَقُولُ:

<<  <  ج: ص:  >  >>