للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

لَكَانَ ذَلِكَ السُّكُونُ جَائِزَ الزَّوَالِ، وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّ ذَلِكَ السُّكُونَ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، افْتَقَرَ إِلَى الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ مُمْكِنًا لِذَاتِهِ، فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُؤَثِّرٍ، وَذَلِكَ الْمُؤَثِّرُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُوجِبًا، لِأَنَّ ذَلِكَ الْمُوجِبَ إِنْ كَانَ وَاجِبًا، وَكَانَ غَنِيًّا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ عَنْ شَرْطٍ لَزِمَ مِنْ دَوَامِهِ دَوَامُ ذَلِكَ الْأَثَرِ، فَكَانَ يَجِبُ أَنْ لَا يَزُولَ لِلسُّكُونِ وَإِنْ كَانَ وَاجِبًا وَمُفْتَقِرًا فِي إِيجَابِهِ لِذَلِكَ الْمَعْلُولِ إِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، لَزِمَ مِنْ دَوَامِ الْعِلَّةِ وَدَوَامِ الشَّرْطِ دَوَامُ الْمَعْلُولِ، أَمَّا إِنْ كَانَ الْمُوجِبُ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، أَوْ كَانَ شَرْطُ إِيجَابِهِ غَيْرَ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ كَانَ الْكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الْأَوَّلِ، فَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَهُوَ مُحَالٌ أَوِ الِانْتِهَاءُ إِلَى مُوجِبٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَإِلَى شَرْطٍ وَاجِبٍ لِذَاتِهِ، وَحِينَئِذٍ يَعُودُ الْإِلْزَامُ الْأَوَّلُ، فَثَبَتَ أَنَّ ذَلِكَ الْمُؤَثِّرَ لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ فَاعِلًا مُخْتَارًا، فَإِذًا كَلُّ سُكُونٍ، فَهُوَ فِعْلُ فَاعِلٍ مُخْتَارٍ، وَكُلُّ مَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُوَ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الْمُخْتَارَ إِنَّمَا يَفْعَلُ بِوَاسِطَةِ الْقَصْدِ، وَالْقَصْدُ إِلَى تَكْوِينِ الْكَائِنِ، وَتَحْصِيلِ الْحَاصِلِ مُحَالٌ، فَثَبَتَ أَنَّ كُلَّ سُكُونٍ فَهُوَ مُحْدَثٌ، فَثَبَتَ أَنَّهُ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ الْجِسْمُ فِي الْأَزَلِ لَا مُتَحَرِّكًا وَلَا سَاكِنًا، فَهُوَ إِذًا غَيْرُ مَوْجُودٍ فِي الْأَزَلِ، فَهُوَ مُحْدَثٌ، وَإِذَا كَانَ مُحْدَثًا افْتَقَرَ فِي ذَاتِهِ، وَفِي تَرْكِيبِ أَجْزَائِهِ إِلَى مُوجِدٍ، وَذَلِكَ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى، فَثَبَتَ بِالْعَقْلِ أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ تَعَالَى.

الْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ فَهُوَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَهُ صَانِعٌ، إِنَّمَا قُلْنَا: كُلُّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُمْكِنٌ، لِأَنَّا لَوْ فَرَضْنَا مَوْجُودَيْنِ وَاجِبَيْنِ لِذَاتَيْهِمَا لَاشْتَرَكَا فِي الْوُجُودِ وَلَتَبَايَنَا بِالتَّعْيِينِ، فَيَكُونُ كُلٌّ مِنْهُمَا مُرَكَّبًا مِمَّا بِهِ الْمُشَارَكَةُ، وَمِمَّا بِهِ الْمُمَايَزَةُ، وَكُلُّ مُرَكَّبٍ مُفْتَقِرٌ إِلَى جُزْئِهِ وَجُزْؤُهُ غَيْرُهُ فَكُلُّ مُرَكَّبٍ فَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ، وَكُلُّ مُفْتَقِرٍ إِلَى غَيْرِهِ مُمْكِنٌ لِذَاتِهِ، فَكُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الْوَاجِبَيْنِ بِالذَّاتِ مُمْكِنٌ بِالذَّاتِ هَذَا خَلْفٌ، ثُمَّ يَنْقُلُ الْكَلَامَ إِلَى ذَيْنِكَ الجز أين، فَإِنْ كَانَا وَاجِبَيْنِ، كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ مُرَكَّبًا وَيَلْزَمُ التَّسَلْسُلُ، وَإِنْ لَمْ يَكُونَا وَاجِبَيْنِ كَانَ الْمُفْتَقِرُ إِلَيْهِمَا أَوْلَى بِعَدَمِ الْوُجُودِ فَثَبَتَ أَنَّ مَا عَدَا الْوَاجِبَ مُمْكِنٌ وَكُلُّ مُمْكِنٍ فَلَهُ مُؤَثِّرٌ وَكُلُّ مَا افْتَقَرَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ مُحْدَثٌ، لِأَنَّ الِافْتِقَارَ إِلَى الْمُؤَثِّرِ لَا يُمْكِنُ أَنْ يَتَحَقَّقَ حَالَ الْبَقَاءِ لِاسْتِحَالَةِ إِيجَادِ الْمُوجِدِ، فَلَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ إِمَّا حَالَ الْحُدُوثِ أَوْ حَالَ الْعَدَمِ، وَعَلَى التَّقْدِيرَيْنِ فَالْحُدُوثُ لَازِمٌ فَثَبَتَ أَنَّ مَا سِوَى الْوَاجِبِ مُحْدَثٌ وَكُلُّ مُحْدَثٍ فَلَا بُدَّ لَهُ مِنْ مُحْدِثٍ، فَلَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ.

الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: صَرِيحُ الْعَقْلِ يَشْهَدُ بِأَنَّ جِرْمَ السَّمَاءِ لَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَكْبَرَ مِمَّا هُوَ الْآنَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، وَلَا يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ أَصْغَرَ بِمِقْدَارِ خَرْدَلَةٍ، فَاخْتِصَاصُ هَذَا الْمِقْدَارِ بِالْوُقُوعِ دُونَ/ الْأَزْيَدِ وَالْأَنْقَصِ، لَا بُدَّ وَأَنْ يَكُونَ بِمُخَصِّصٍ، فَثَبَتَ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ بَانٍ: فَإِنْ قِيلَ لِمَ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ تَعَالَى خَلَقَ شَيْئًا وَأَعْطَاهُ قُدْرَةً يَتَمَكَّنُ ذَلِكَ الْمَخْلُوقُ بِتِلْكَ الْقُدْرَةِ مِنْ خَلْقِ الْأَجْسَامِ فَيَكُونُ خَالِقُ السَّمَاءِ وَبَانِيهَا هُوَ ذَلِكَ الشَّيْءَ؟ الْجَوَابُ: مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ قَالَ: الْمَعْلُومُ بِالْعَقْلِ أَنَّهُ لَا بُدَّ لِلسَّمَاءِ مِنْ مُحْدِثٍ وَأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ الِانْتِهَاءِ آخِرِ الْأَمْرِ إِلَى قَدِيمٍ وَالْإِلَهُ قَدِيمٌ وَاجِبُ الْوُجُودِ لِذَاتِهِ وَاحِدٌ وَهُوَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَأَمَّا نَفْيُ الْوَاسِطَةِ فَإِنَّمَا يُعْلَمُ بِالسَّمْعِ فَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: بَناها يَدُلُّ عَلَى أَنَّ بَانِيَ السَّمَاءِ هُوَ اللَّهُ لَا غَيْرُهُ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بَلِ الْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِهِ لِأَنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ كُلَّ مَا عَدَاهُ مُحْدَثٌ ثَبَتَ أَنَّهُ قَادِرٌ لَا مُوجَبٌ، وَالَّذِي كَانَ مَقْدُورًا لَهُ إِنَّمَا صَحَّ كَوْنُهُ مَقْدُورًا لَهُ بِكَوْنِهِ مُمْكِنًا، فَإِنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ الْإِمْكَانَ بَقِيَ الْوُجُوبُ أَوِ الِامْتِنَاعُ وَهُمَا يُحِيلَانِ الْمَقْدُورِيَّةَ، وَإِذَا كَانَ مَا لِأَجْلِهِ صَحَّ فِي الْبَعْضِ أَنْ يَكُونَ مَقْدُورًا لِلَّهِ وَهُوَ الْإِمْكَانُ وَالْإِمْكَانُ عَامٌّ فِي الْمُمْكِنَاتِ وَجَبَ أَنْ يَحْصُلَ فِي كُلِّ الْمُمْكِنَاتِ صِحَّةُ أَنْ تَكُونَ مَقْدُورَةً لِلَّهِ تَعَالَى، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَنِسْبَةُ قُدْرَتِهِ إِلَى الْكُلِّ عَلَى السَّوِيَّةِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى الْكُلِّ، وإذا ثبت

<<  <  ج: ص:  >  >>