فَالْمُرَادُ بِالدَّابَّةِ الْكَافِرُ، وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى: أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ [الْأَعْرَافِ: ١٧٩] وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الْخَامِسَةُ: الْكِنَايَةُ فِي قَوْلِهِ: عَلَيْها عائدة إلى الْأَرْضِ، وَلَمْ يَسْبِقْ لَهَا ذِكْرٌ، إِلَّا أَنَّ ذِكْرَ الدَّابَّةِ يَدُلُّ عَلَى الْأَرْضِ، فَإِنَّ الدَّابَّةَ إِنَّمَا تَدِبُّ عَلَيْهَا. وَكَثِيرًا مَا يُكَنَّى عَنِ الْأَرْضِ، وَإِنْ لَمْ يَتَقَدَّمْ ذِكْرُهَا لِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا عَلَيْهَا مِثْلُ فُلَانٍ وَمَا عَلَيْهَا أَكْرَمُ مِنْ فُلَانٍ، يَعْنُونَ عَلَى الْأَرْضِ.
ثم قال تَعَالَى: وَلكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لِيَتَوَالَدُوا، وَفِي تَفْسِيرِ هَذَا الْأَجَلِ قَوْلَانِ:
الْقَوْلُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ قَوْلُ عَطَاءٍ: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ يُرِيدُ أَجَلَ الْقِيَامَةِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مُنْتَهَى الْعُمُرِ. وَجْهُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ أَنَّ مُعْظَمَ الْعَذَابِ يُوَافِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَوَجْهُ الْقَوْلِ الثَّانِي أن المشركين يؤاخذون بِالْعُقُوبَةِ إِذَا انْقَضَتْ أَعْمَارُهُمْ وَخَرَجُوا مِنَ الدُّنْيَا.
النوع الثَّالِثُ: مِنَ الْأَقَاوِيلِ الْفَاسِدَةِ الَّتِي كَانَ يَذْكُرُهَا الْكُفَّارُ وَحَكَاهَا اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ، قَوْلُهُ: وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: وَيَجْعَلُونَ أَيِ الْبَنَاتِ الَّتِي يَكْرَهُونَهَا لأنفسهم، ومعنى قوله: يَجْعَلُونَ يَصِفُونَ اللَّهَ بِذَلِكَ وَيَحْكُمُونَ بِهِ لَهُ كَقَوْلِهِ جَعَلْتُ زَيْدًا عَلَى النَّاسِ أَيْ حَكَمْتُ بِهَذَا الحكم وَذَكَرْنَا مَعْنَى الْجَعْلِ عِنْدَ قَوْلِهِ: مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سائِبَةٍ [الْمَائِدَةِ: ١٠٣] .
ثم قال تَعَالَى: وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى [إلى قوله وَلَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ] قَالَ الْفَرَّاءُ وَالزَّجَّاجُ: مَوْضِعُ «أَنْ» نَصْبٌ لِأَنَّ قَوْلَهُ: أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى بَدَلٌ مِنَ الْكَذِبِ، وَتَقْدِيرُ الْكَلَامِ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمْ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى. وفي تفسير الْحُسْنى هاهنا قَوْلَانِ: الْأَوَّلُ: الْمُرَادُ مِنْهُ الْبَنُونَ، يَعْنِي أَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّهِ الْبَنَاتُ وَلَنَا الْبَنُونَ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ مَعَ قَوْلِهِمْ بِإِثْبَاتِ الْبَنَاتِ لِلَّهِ تَعَالَى، يَصِفُونَ أَنْفُسَهُمْ بِأَنَّهُمْ فَازُوا بِرِضْوَانِ اللَّهِ تَعَالَى بِسَبَبِ هَذَا الْقَوْلِ، وَأَنَّهُمْ عَلَى الدِّينِ الْحَقِّ وَالْمَذْهَبِ الْحَسَنِ. الثَّالِثُ: أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ وَالثَّوَابِ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى.
فَإِنْ قِيلَ: كَيْفَ يَحْكُمُونَ بِذَلِكَ وَهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ؟
قُلْنَا: كُلُّهُمْ مَا كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ، فَقَدْ قِيلَ: إِنَّهُ كَانَ فِي الْعَرَبِ جَمْعٌ يُقِرُّونَ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ، وَلِذَلِكَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْبُطُونَ الْبَعِيرَ النَّفِيسَ عَلَى قَبْرِ الْمَيِّتِ وَيَتْرُكُونَهُ إِلَى أَنْ يَمُوتَ وَيَقُولُونَ: إِنَّ ذَلِكَ الْمَيِّتَ إِذَا حُشِرَ فَإِنَّهُ يُحْشَرُ مَعَهُ مَرْكُوبُهُ، وَأَيْضًا فَبِتَقْدِيرِ أَنَّهُمْ كَانُوا مُنْكِرِينَ لِلْقِيَامَةِ فَلَعَلَّهُمْ قَالُوا: إِنْ كَانَ مُحَمَّدٌ صَادِقًا فِي قَوْلِهِ بِالْبَعْثِ وَالنُّشُورِ فَإِنَّهُ يَحْصُلُ لَنَا الْجَنَّةُ وَالثَّوَابُ بِسَبَبِ هَذَا/ الدِّينِ الْحَقِّ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ، وَمِنَ النَّاسِ مَنْ قَالَ: الْأَوْلَى أَنْ يُحْمَلَ الْحُسْنى عَلَى هَذَا الوجه بِدَلِيلِ أَنَّهُ تَعَالَى قَالَ بَعْدَهُ: لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ فَرَدَّ عَلَيْهِمْ قَوْلَهُمْ وَأَثْبَتَ لَهُمُ النَّارَ، فَدَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّهُمْ حَكَمُوا لِأَنْفُسِهِمْ بِالْجَنَّةِ. قَالَ الزَّجَّاجُ: لَا رَدٌّ لِقَوْلِهِمْ، وَالْمَعْنَى لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا وَصَفُوا جَرَمَ فِعْلُهُمْ أَيْ كَسْبُ ذَلِكَ الْقَوْلِ لَهُمُ النَّارُ، فَعَلَى هَذَا لفظ «أَنَّ» فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْكَسْبِ عَلَيْهِ. وَقَالَ قُطْرُبٌ (أَنَّ) فِي مَوْضِعِ رَفْعٍ، وَالْمَعْنَى: وَجَبَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَكَيْفَ كَانَ الْإِعْرَابُ فَالْمَعْنَى هُوَ أَنَّهُ يَحِقُّ لَهُمُ النَّارُ وَيَجِبُ وَيَثْبُتُ. وَقَوْلُهُ: وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ قَرَأَ نَافِعٌ وَقُتَيْبَةُ عَنِ الْكِسَائِيِّ: مُفْرَطُونَ بِكَسْرِ الرَّاءِ، وَالْبَاقُونَ: مُفْرَطُونَ بِفَتْحِ الرَّاءِ. أَمَّا قِرَاءَةُ نَافِعٍ فَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْمَعْنَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُفْرِطِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ فِي الذُّنُوبِ، وَقِيلَ: أَفْرَطُوا فِي الِافْتِرَاءِ عَلَى اللَّهِ تَعَالَى، وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الْفَارِسِيُّ: كَأَنَّهُ مِنْ أَفْرَطَ، أَيْ صَارَ ذَا فَرَطٍ