[الْحَجِّ: ٧٨] وَكَقَوْلِهِ: يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ [الْبَقَرَةِ: ١٨٥]
وَكَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «لَا ضَرَرَ وَلَا ضِرَارَ فِي الْإِسْلَامِ»
وَكَقَوْلِهِ: «مَلْعُونٌ مَنْ ضَرَّ مُسْلِمًا»
فَثَبَتَ بِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَالْأَخْبَارِ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْمَضَارِّ الْحُرْمَةُ، فَنَقُولُ: إِذَا وَقَعَتْ حَادِثَةٌ مُشْتَمِلَةٌ عَلَى الضَّرَرِ مِنْ كُلِّ الْوُجُوهِ، فَإِنْ وَجَدْنَا نَصًّا خَاصًّا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ مَشْرُوعًا قَضَيْنَا بِهِ تَقْدِيمًا لِلْخَاصِّ عَلَى الْعَامِّ، وَإِلَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ بِالْحُرْمَةِ بِنَاءً عَلَى هَذَا الْأَصْلِ الَّذِي قَرَّرْنَاهُ. وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ هَذِهِ الْقَاعِدَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا يُرِيدُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا فِي حَقِّهِ، لِأَنَّ الْمَنْعَ مِنْهُ ضَرَرٌ، وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ بِمُقْتَضَى هَذَا الْأَصْلِ وَكُلُّ مَا يَكْرَهُهُ الْإِنْسَانُ وَجَبَ أَنْ يَحْرُمَ لِأَنَّ وُجُودَهُ ضَرَرٌ وَالضَّرَرُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، فَثَبَتَ أَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يَتَنَاوَلُ/ جَمِيعَ الْوَقَائِعِ الْمُمْكِنَةِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، ثُمَّ نَقُولُ الْقِيَاسُ الَّذِي يُتَمَسَّكُ بِهِ فِي إِثْبَاتِ الْأَحْكَامِ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَلَى وَفْقِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ أَوْ عَلَى خِلَافِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ:
لِأَنَّ هَذَا الْأَصْلَ يُغْنِي عَنْهُ، وَالثَّانِي بَاطِلٌ، لِأَنَّ النَّصَّ رَاجِحٌ عَلَى الْقِيَاسِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: قَالَتِ الْمُعْتَزِلَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الظُّلْمَ وَالْمَعَاصِيَ لَيْسَتْ فِعْلًا لِلَّهِ تَعَالَى، بَلْ تَكُونُ أَفْعَالًا لِلْعِبَادِ، لِأَنَّهُ تَعَالَى أَضَافَ ظُلْمَ الْعِبَادِ إِلَيْهِمْ، وَمَا أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ. فَقَالَ: وَلَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ خَلْقًا لِلَّهِ تَعَالَى لَكَانَتْ مُؤَاخَذَتُهُمْ بِهَا ظُلْمًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَلَمَّا مَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى الْعِبَادَ مِنَ الظُّلْمِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، فَبِأَنْ يَكُونَ مُنَزَّهًا عَنِ الظُّلْمِ كَانَ أَوْلَى، قَالُوا: وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ أَعْمَالَهُمْ مُؤَثِّرَةٌ فِي وُجُوبِ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ أَنَّ قَوْلَهُ: بِظُلْمِهِمْ الْبَاءُ فِيهِ تَدُلُّ على العلية كما في قوله: لِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ
[الْأَنْفَالِ: ١٣] .
وَاعْلَمْ أَنَّ الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ قَدْ ذَكَرْنَاهُ مِرَارًا فَلَا نُعِيدُهُ. وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
المسألة الرَّابِعَةُ: ظَاهِرُ الْآيَةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِقْدَامَ النَّاسِ عَلَى الظُّلْمِ يُوجِبُ إِهْلَاكَ جَمِيعِ الدَّوَابِّ وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ، لِأَنَّ الدَّابَّةَ لَمْ يَصْدُرْ عَنْهَا ذَنْبٌ، فَكَيْفَ يَجُوزُ إِهْلَاكُهَا بِسَبَبِ ظُلْمِ النَّاسِ؟
وَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الوجه الْأَوَّلُ: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّ قَوْلَهُ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ.
وَأَجَابَ أَبُو عَلِيٍّ الْجُبَّائِيُّ عَنْهُ: أَنَّ الْمُرَادَ لَوْ يُؤَاخِذُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَسَبُوا مِنْ كُفْرٍ وَمَعْصِيَةٍ لَعَجَّلَ هَلَاكَهُمْ، وَحِينَئِذٍ لَا يَبْقَى لَهُمْ نَسْلٌ، ثُمَّ مِنَ المعلوم أنه لا أحدا إِلَّا وَفِي أَحَدِ آبَائِهِ مَنْ يَسْتَحِقُّ الْعَذَابَ وَإِذَا هَلَكُوا فَقَدْ بَطَلَ نَسْلُهُمْ، فَكَانَ يَلْزَمُهُ أَنْ لَا يَبْقَى فِي الْعَالَمِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ، وَإِذَا بَطَلُوا وَجَبَ أَنْ لَا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَ الدَّوَابِّ أَيْضًا، لِأَنَّ الدَّوَابَّ مَخْلُوقَةٌ لِمَنَافِعِ الْعِبَادِ وَمَصَالِحِهِمْ، فَهَذَا وَجْهٌ لَطِيفٌ حَسَنٌ.
وَالوجه الثَّانِي: أَنَّ الْهَلَاكَ إِذَا وَرَدَ عَلَى الظَّلَمَةِ وَرَدَ أَيْضًا عَلَى سَائِرِ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ، فَكَانَ ذَلِكَ الْهَلَاكُ فِي حَقِّ الظَّلَمَةِ عَذَابًا، وَفِي حَقِّ غَيْرِهِمُ امْتِحَانًا، وَقَدْ وَقَعَتْ هَذِهِ الْوَاقِعَةُ فِي زَمَانِ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَالوجه الثَّالِثُ: أَنَّهُ تَعَالَى لَوْ آخَذَهُمْ لَانْقَطَعَ الْقَطْرُ وفي انقطاعه النَّبْتِ فَكَانَ لَا تَبْقَى عَلَى ظَهْرِهَا دَابَّةٌ، وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَنَّهُ سمع رجلا يقول: إن الظالم لا يضر إِلَّا نَفْسَهُ، فَقَالَ: لَا وَاللَّهِ بَلْ إِنَّ الْحُبَارَى فِي وَكْرِهَا لَتَمُوتَ بِظُلْمِ الظَّالِمِ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَادَ الْجَعْلُ يَهْلِكُ فِي جُحْرِهِ بِذَنْبِ ابْنِ آدَمَ، فَهَذِهِ الْوُجُوهُ الثَّلَاثَةُ مِنَ الْجَوَابِ مُفَرَّعَةٌ عَلَى تَسْلِيمِ أَنَّ لَفْظَةَ الدَّابَّةِ يَتَنَاوَلُ جَمِيعَ الدَّوَابِّ.
وَالْجَوَابُ الثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ مِنْ قَوْلِهِ: مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ أَيْ مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ كَافِرٍ،