للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

كَانُوا ذَوِي رَحِمٍ فَكُلُّ مَنْ كَانَ مِنْ هَؤُلَاءِ وَارِثًا لَمْ يَجُزِ الْوَصِيَّةُ لَهُ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ وَارِثًا جَازَتِ الْوَصِيَّةُ لَهُ لِأَجْلِ صِلَةِ الرَّحِمِ، فَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بقوله: وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحامَ [النِّسَاءِ: ١] وَبِقَوْلِهِ:

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى [النَّحْلِ: ٩٠] فَهَذَا تَقْرِيرُ مَذْهَبِ أَبِي مُسْلِمٍ فِي هَذَا الْبَابِ.

أَمَّا الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْآيَةَ مَنْسُوخَةٌ فَيَتَوَجَّهُ تَفْرِيعًا عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ أَبْحَاثٌ:

الْبَحْثُ الْأَوَّلُ: اخْتَلَفُوا فِي أَنَّهَا بِأَيِّ دَلِيلٍ صَارَتْ مَنْسُوخَةً؟ وَذَكَرُوا وجوها أحدهما: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِإِعْطَاءِ اللَّهِ تَعَالَى أَهْلَ الْمَوَارِيثِ كُلَّ ذِي حَقٍّ حَقَّهُ فَقَطْ وَهَذَا بَعِيدٌ لِأَنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ مَعَ قَدْرٍ مِنَ الْحَقِّ بِالْمِيرَاثِ وُجُوبُ قَدْرٍ آخَرَ بِالْوَصِيَّةِ وَأَكْثَرُ مَا يُوجِبُهُ ذَلِكَ التَّخْصِيصُ لَا النَّسْخُ بِأَنْ يَقُولَ قَائِلٌ: إِنَّهُ لَا بُدَّ وَأَنْ تَكُونَ منسوخة فيمن لم يختلف إِلَّا الْوَالِدَيْنِ مِنْ حَيْثُ يَصِيرُ كُلُّ الْمَالُ حَقًّا لَهُمَا بِسَبَبِ الْإِرْثِ فَلَا يَبْقَى لِلْوَصِيَّةِ شَيْءٌ إِلَّا أَنَّ هَذَا تَخْصِيصٌ لَا نَسْخٌ وَثَانِيهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَلَا لَا وَصِيَّةَ لِوَارِثٍ»

وَهَذَا أَقْرَبُ إِلَّا أَنَّ الْإِشْكَالَ فِيهِ أَنَّ هَذَا خَبَرٌ وَاحِدٌ فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ، وَأُجِيبَ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ بِأَنَّ هَذَا الْخَبَرَ وَإِنْ كَانَ خَبَرَ وَاحِدٍ إِلَّا أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ فَالْتَحَقَ بِالْمُتَوَاتِرِ.

وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: يُدَّعَى أَنَّ الْأَئِمَّةَ تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ عَلَى وَجْهِ الظَّنِّ أَوْ عَلَى وَجْهِ الْقَطْعِ، وَالْأَوَّلُ مُسَلَّمٌ إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ إِجْمَاعًا مِنْهُمْ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ، فَلَا يَجُوزُ نَسْخُ الْقُرْآنِ بِهِ وَالثَّانِي مَمْنُوعٌ لِأَنَّهُمْ لَوْ قَطَعُوا بِصِحَّتِهِ مَعَ أَنَّهُ مِنْ بَابِ الْآحَادِ لَكَانُوا قَدْ أَجْمَعُوا عَلَى الْخَطَأِ وَأَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ وَثَالِثُهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِالْإِجْمَاعِ وَالْإِجْمَاعُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْسَخَ بِهِ الْقُرْآنُ. لِأَنَّ الْإِجْمَاعَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ كَانَ الدَّلِيلُ النَّاسِخُ مَوْجُودًا إِلَّا أَنَّهُمُ اكْتَفَوْا بالإجماع من ذِكْرِ ذَلِكَ الدَّلِيلِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَمَّا ثَبَتَ أَنَّ فِي الْأُمَّةِ مَنْ أَنْكَرَ وُقُوعَ هَذَا النَّسْخِ فَكَيْفَ يُدَّعَى انْعِقَادُ الْإِجْمَاعِ عَلَى حُصُولِ النَّسْخِ؟ وَرَابِعُهَا: أَنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً بِدَلِيلٍ قِيَاسِيٍّ وَهُوَ أَنْ نَقُولَ: هَذِهِ الْوَصِيَّةُ لَوْ كانت واجبة لكان عند ما لَمْ تُوجَدْ هَذِهِ الْوَصِيَّةُ وَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ حَقُّ هَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ قِيَاسًا عَلَى الدُّيُونِ التي لا توجد الوصية بها لكن عند ما لَمْ تُوجَدِ الْوَصِيَّةُ لِهَؤُلَاءِ الْأَقْرَبِينَ لَا يَسْتَحِقُّونَ شَيْئًا، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى فِي آيَةِ الْمَوَارِيثِ: مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ [النِّسَاءِ: ١١] وَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنَّهُ إِذَا لَمْ تَكُنْ وَصِيَّةٌ وَلَا دَيْنٌ، فَالْمَالُ أَجْمَعُ مَصْرُوفٌ إِلَى أَهْلِ الْمِيرَاثِ، وَلِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: نَسْخُ الْقُرْآنِ بِالْقِيَاسِ غَيْرُ جَائِزٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

الْبَحْثُ الثَّانِي: الْقَائِلُونَ بِأَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ صَارَتْ مَنْسُوخَةً اخْتَلَفُوا عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْهُمْ مَنْ قَالَ: إِنَّهَا صَارَتْ مَنْسُوخَةً فِي حَقِّ مَنْ يَرِثُ وَفِي حَقِّ مَنْ لَا يَرِثُ وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ وَالْمُعْتَبَرِينَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ:

إِنَّهَا مَنْسُوخَةٌ فِيمَنْ يَرِثُ ثَابِتَةٌ فِيمَنْ لَا يَرِثُ، وَهُوَ مَذْهَبُ ابْنِ عَبَّاسٍ/ وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَمَسْرُوقٌ وَطَاوُسٌ وَالضَّحَّاكُ وَمُسْلِمُ بْنُ يَسَارٍ وَالْعَلَاءُ بْنُ زِيَادٍ حَتَّى قَالَ الضَّحَّاكُ: مَنْ مَاتَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُوصِيَ لِأَقْرِبَائِهِ فَقَدْ خَتَمَ عَمَلَهُ بِمَعْصِيَةٍ، وَقَالَ طَاوُسٌ: إِنْ أَوْصَى لِلْأَجَانِبِ وَتَرَكَ الْأَقَارِبَ نُزِعَ مِنْهُمْ وَرُدَّ إِلَى الْأَقَارِبِ، فَعِنْدَ هَؤُلَاءِ أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ بَقِيَتْ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وَارِثًا، وَحُجَّةُ هَؤُلَاءِ مِنْ وَجْهَيْنِ:

الْحُجَّةُ الْأُولَى: أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ دَالَّةٌ عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ تُرِكَ الْعَمَلُ بِهِ فِي حَقِّ الْوَارِثِ الْقَرِيبِ، إِمَّا بِآيَةِ الْمَوَارِيثِ وَإِمَّا

بِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصلاة والسلام: «ألا لا وصية الوارث»

أَوْ بِالْإِجْمَاعِ عَلَى أَنَّهُ لَا وَصِيَّةَ لِلْوَارِثِ، وهاهنا الْإِجْمَاعُ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَ ظُهُورِ الْخِلَافِ فِيهِ قَدِيمًا وَحَدِيثًا، فَوَجَبَ أَنْ تَبْقَى الْآيَةُ دَالَّةً عَلَى وُجُوبِ الْوَصِيَّةِ لِلْقَرِيبِ الَّذِي لَا يَكُونُ وارثا.