طَوَلُوتُ، إِلَّا أَنَّ امْتِنَاعَ صَرْفِهِ يَدْفَعُ أَنْ يَكُونَ/ مِنْهُ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: هُوَ اسْمٌ عِبْرَانِيٌّ وَافَقَ عَرَبِيًّا كَمَا وَافَقَ حِطَّةٌ حِنْطَةً، وعلى هذا التقدير يكون أحد سببه الْعُجْمَةَ لِكَوْنِهِ عِبْرَانِيًّا، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمَّا عَيَّنَهُ لِأَنْ يَكُونَ مَلِكًا لَهُمْ أَظْهَرُوا التَّوَلِّيَ عَنْ طَاعَتِهِ، وَالْإِعْرَاضَ عَنْ حُكْمِهِ، وَقَالُوا: أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَاسْتَبْعَدُوا جِدًّا أَنْ يَكُونَ هُوَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ، قَالَ الْمُفَسِّرُونَ: وَسَبَبُ هَذَا الِاسْتِبْعَادِ أَنَّ النُّبُوَّةَ كَانَتْ مَخْصُوصَةً بِسِبْطٍ مُعَيَّنٍ مِنْ أَسْبَاطِ بَنِي إِسْرَائِيلَ، وَهُوَ سِبْطُ لَاوِي بْنِ يَعْقُوبَ، وَمِنْهُ مُوسَى وَهَارُونُ، وَسِبْطُ الْمَمْلَكَةِ، سِبْطُ يَهُوذَا، وَمِنْهُ دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ، وَأَنَّ طَالُوتَ مَا كَانَ مِنْ أَحَدِ هَذَيْنِ السِّبْطَيْنِ، بَلْ كَانَ مِنْ وَلَدِ بِنْيَامِينَ فَلِهَذَا السَّبَبِ أَنْكَرُوا كَوْنَهُ مَلِكًا لَهُمْ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ، ثُمَّ إِنَّهُمْ أَكَّدُوا هَذِهِ الشُّبْهَةَ بِشُبْهَةٍ أُخْرَى، وَهِيَ قَوْلُهُمْ: وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَاخْتَلَفُوا فَقَالَ وَهْبٌ، كَانَ دَبَّاغًا، وَقَالَ السُّدِّيُّ: كَانَ مُكَارِيًا، وَقَالَ آخَرُونَ، كَانَ سَقَّاءً.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَاوَيْنِ فِي قَوْلِهِ: وَنَحْنُ أَحَقُّ وَفِي قَوْلِهِ: وَلَمْ يُؤْتَ.
قُلْنَا: الْأُولَى لِلْحَالِ، وَالثَّانِيَةُ لِعَطْفِ الْجُمْلَةِ عَلَى الْجُمْلَةِ الْوَاقِعَةِ حَالًا، وَالْمَعْنَى: كَيْفَ يَتَمَلَّكُ عَلَيْنَا وَالْحَالُ أَنَّهُ لَا يَسْتَحِقُّ التَّمَلُّكَ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ، وَأَنَّهُ فَقِيرٌ وَلَا بُدَّ للملك من مال يعتضد به، [وجوه التي أجاب الله تعالى في هذه الآية بأنه لَا يَسْتَحِقُّ التَّمَلُّكَ لِوُجُودِ مَنْ هُوَ أَحَقُّ بالملك، وأن طالوت فَقِيرٌ وَلَا بُدَّ لِلْمَلِكِ مِنْ مَالٍ يَعْتَضِدُ بِهِ] ثُمَّ إِنَّهُ تَعَالَى أَجَابَ عَنْ شُبَهِهِمْ بِوُجُوهٍ الْأَوَّلُ: قَوْلُهُ: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَفِيهِ مَسَائِلُ:
الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى: مَعْنَى الْآيَةِ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَوْمَ لَمَّا كَانُوا مُقِرِّينَ بِنُبُوَّةِ ذَلِكَ النَّبِيِّ، كَانَ إِخْبَارُهُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ جَعَلَ طَالُوتَ مَلِكًا عَلَيْهِمْ حُجَّةً قَاطِعَةً فِي ثُبُوتِ الْمُلْكِ لَهُ لِأَنَّ تَجْوِيزَ الْكَذِبِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ يَقْتَضِي رَفْعَ الْوُثُوقِ بِقَوْلِهِمْ وَذَلِكَ يَقْدَحُ فِي ثُبُوتِ نَبُوَّتِهِمْ وَرِسَالَتِهِمْ، وَإِذَا ثَبَتَ صِدْقُ الْمُخْبِرِ ثَبَتَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ كَانَ مَلِكًا وَاجِبَ الطَّاعَةِ وَكَانَتِ الِاعْتِرَاضَاتُ سَاقِطَةً.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: اصْطَفاهُ أَيْ أَخَذَ الْمُلْكَ مِنْ غَيْرِهِ صَافِيًا لَهُ، وَاصْطَفَاهُ، وَاسْتَصْفَاهُ بِمَعْنَى الِاسْتِخْلَاصِ، وَهُوَ أَنْ يَأْخُذَ الشَّيْءَ خَالِصًا لِنَفْسِهِ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ: إِنَّهُ مَأْخُوذٌ مِنَ الصَّفْوَةِ، وَالْأَصْلُ فِيهِ اصْتَفَى بِالتَّاءِ فَأُبْدِلَتِ التَّاءُ طَاءً لِيَسْهُلَ النُّطْقُ بِهَا بَعْدَ الصَّادِ، وَكَيْفَمَا كَانَ الِاشْتِقَاقُ فَالْمُرَادُ مَا ذَكَرْنَاهُ أَنَّهُ تَعَالَى خَصَّهُ بِالْمُلْكِ وَالْإِمْرَةِ، وَعَلَى هَذَا الْوَجْهِ وَصَفَ تَعَالَى نَفْسَهُ بِأَنَّهُ اصْطَفَى الرُّسُلَ وَوَصَفَهُمْ بِأَنَّهُمُ: الْمُصْطَفَوْنَ الْأَخْيَارَ وَوَصَفَ الرَّسُولَ بِأَنَّهُ الْمُصْطَفَى.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: هَذِهِ الْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ قَوْلِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ الْإِمَامَةَ مَوْرُوثَةٌ، وَذَلِكَ لِأَنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ مَلِكُهُمْ مَنْ لَا يَكُونُ مِنْ بَيْتِ الْمَمْلَكَةِ، فَأَعْلَمَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى أَنَّ هَذَا سَاقِطٌ، وَالْمُسْتَحِقُّ لِذَلِكَ مَنْ خَصَّهُ اللَّهُ تَعَالَى بِذَلِكَ، وَهُوَ نَظِيرُ قوله: تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ [آلِ عِمْرَانَ: ٢٦] .
الْوَجْهُ الثَّانِي: فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ قَوْلُهُ تَعَالَى: وَزادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَتَقْرِيرُ/ هَذَا الْجَوَابِ أَنَّهُمْ طَعَنُوا فِي اسْتِحْقَاقِهِ لِلْمُلْكِ بِأَمْرَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِ الْمُلْكِ الثَّانِي: أَنَّهُ فَقِيرٌ، وَاللَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ أَنَّهُ أَهْلٌ لِلْمُلْكِ وَقَرَّرَ ذَلِكَ بِأَنَّهُ حَصَلَ لَهُ وَصْفَانِ أَحَدُهُمَا: الْعِلْمُ وَالثَّانِي: الْقُدْرَةُ، وَهَذَانِ الْوَصْفَانِ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِاسْتِحْقَاقِهِ الْمُلْكَ مِنَ الْوَصْفَيْنِ الْأَوَّلَيْنِ وَبَيَانُهُ مِنْ وُجُوهٍ أَحَدُهَا: أَنَّ الْعِلْمَ وَالْقُدْرَةَ مِنْ باب الكمالات
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute