لَصَارَ تَقْدِيرُ الْآيَةِ: إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ أَيُّهَا الْأَزْوَاجُ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ وَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ بَيْنَ الشَّرْطِ وَبَيْنَ الْجَزَاءِ مُنَاسَبَةٌ أَصْلًا وَذَلِكَ يُوجِبُ تَفَكُّكَ نَظْمَ الْكَلَامِ وَتَنْزِيهُ كَلَامِ اللَّهِ عَنْ مِثْلِهِ وَاجِبٌ، فَهَذَا كَلَامٌ قَوِيٌّ مَتِينٌ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْقَوْلِ، ثُمَّ إِنَّهُ يَتَأَكَّدُ بِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ الْأَوَّلُ: أَنَّ مِنْ أَوَّلِ آيَةٍ فِي الطَّلَاقِ إِلَى هَذَا الْمَوْضِعِ كَانَ الْخِطَابُ كُلُّهُ مَعَ الْأَزْوَاجِ، وَالْبَتَّةَ مَا جَرَى لِلْأَوْلِيَاءِ ذِكْرٌ فَكَانَ صَرْفُ هَذَا الْخِطَابِ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ عَلَى خِلَافِ النَّظْمِ وَالثَّانِي:
مَا قَبْلَ هَذِهِ الْآيَةِ خِطَابٌ مَعَ الْأَزْوَاجِ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، فَإِذَا جَعَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابًا لَهُمْ فِي كَيْفِيَّةِ مُعَامَلَتِهِمْ مَعَ النِّسَاءِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ كَانَ الْكَلَامُ مُنْتَظِمًا، وَالتَّرْتِيبُ مُسْتَقِيمًا، أَمَّا إِذَا جَعَلْنَاهُ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ مِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ الْحَسَنِ اللَّطِيفِ، فَكَانَ صَرْفُ الْخِطَابِ إِلَى الْأَزْوَاجِ أَوْلَى.
حُجَّةُ مَنْ قَالَ الْآيَةُ خِطَابٌ لِلْأَوْلِيَاءِ وُجُوهٌ الْأَوَّلُ: وَهُوَ عُمْدَتُهُمُ الْكُبْرَى: أَنَّ الرِّوَايَاتِ الْمَشْهُورَةَ فِي سَبَبِ نُزُولِ الْآيَةِ دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ خِطَابٌ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ لَا مَعَ الْأَزْوَاجِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّهُ لَمَّا وَقَعَ التَّعَارُضُ بَيْنَ هَذِهِ الْحُجَّةِ وَبَيْنَ الْحُجَّةِ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا كَانَتِ الْحُجَّةُ الَّتِي ذَكَرْنَاهَا أَوْلَى بِالرِّعَايَةِ لِأَنَّ الْمُحَافَظَةَ عَلَى نَظْمِ الْكَلَامِ أَوْلَى مِنَ الْمُحَافَظَةِ عَلَى خَبَرِ الْوَاحِدِ وَأَيْضًا فَلِأَنَّ الرِّوَايَاتِ مُتَعَارِضَةٌ، فَرُوِيَ عَنْ مَعْقِلٍ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ، إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ لَوْ كَانَتْ خِطَابًا مَعَ الْأَزْوَاجِ لَكَانَتْ إِمَّا أَنْ تَكُونَ خِطَابًا قَبْلَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ أَوْ مَعَ انْقِضَائِهَا، وَالْأَوَّلُ بَاطِلٌ لِأَنَّ ذَلِكَ مُسْتَفَادٌ مِنَ الْآيَةِ، فَلَوْ حَمَلْنَا هَذِهِ الْآيَةَ عَلَى مِثْلِ ذَلِكَ الْمَعْنَى كَانَ تَكْرَارًا مِنْ غَيْرِ فَائِدَةٍ، وَأَيْضًا فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ فَنَهَى عَنِ الْعَضْلِ حَالَ/ حُصُولِ التَّرَاضِي، وَلَا يَحْصُلُ التَّرَاضِي بِالنِّكَاحِ إِلَّا بَعْدَ التَّصْرِيحِ بِالْخُطْبَةِ، وَلَا يَجُوزُ التَّصْرِيحُ بِالْخِطْبَةِ إِلَّا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ، قَالَ تَعَالَى: وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ [الْبَقَرَةِ: ٢٣٥] وَالثَّانِي: أَيْضًا بَاطِلٌ لِأَنَّ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ لَيْسَ لِلزَّوْجِ قُدْرَةٌ عَلَى عَضْلِ الْمَرْأَةِ، فَكَيْفَ يُصْرَفُ هَذَا النَّهْيُ إِلَيْهِ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الرَّجُلَ قَدْ يَكُونُ بِحَيْثُ يَشْتَدُّ نَدَمُهُ عَلَى مُفَارَقَةِ الْمَرْأَةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا وَتَلْحَقُهُ الْغَيْرَةُ إِذَا رَأَى مَنْ يَخْطُبُهَا، وَحِينَئِذٍ يَعْضُلُهَا عَنْ أَنْ يَنْكِحَهَا غَيْرُهُ إِمَّا بِأَنْ يَجْحَدَ الطَّلَاقَ أَوْ يَدَّعِيَ أَنَّهُ كَانَ رَاجَعَهَا فِي الْعِدَّةِ، أَوْ يَدُسَّ إِلَى مَنْ يَخْطُبُهَا بِالتَّهْدِيدِ وَالْوَعِيدِ، أَوْ يُسِيءَ الْقَوْلَ فِيهَا وَذَلِكَ بِأَنْ يَنْسُبَهَا إِلَى أُمُورٍ تُنَفِّرُ الرَّجُلَ عَنِ الرَّغْبَةِ فِيهَا، فَاللَّهُ تَعَالَى نَهَى الْأَزْوَاجَ عَنْ هَذِهِ الْأَفْعَالِ وَعَرَّفَهُمْ أَنَّ تَرْكَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ أَزْكَى لَهُمْ وَأَطْهَرُ مِنْ دَنَسِ الْآثَامِ.
الْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: لَهُمْ قَالُوا قَوْلُهُ تَعَالَى: أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ مَعْنَاهُ: وَلَا تَمْنَعُوهُنَّ مِنْ أَنْ يَنْكِحْنَ الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجًا لَهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، وَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَنْتَظِمُ إِلَّا إِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَمْنَعُونَهُنَّ مِنَ الْعَوْدِ إِلَى الَّذِينَ كَانُوا أَزْوَاجًا لَهُنَّ قَبْلَ ذَلِكَ، فَأَمَّا إِذَا جَعَلْنَا الْآيَةَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ، فَهَذَا الْكَلَامُ لَا يَصِحُّ، وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ مَنْ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَزَوَّجُوهُنَّ فَيَكُونُونَ أَزْوَاجًا وَالْعَرَبُ قَدْ تُسَمِّي الشَّيْءَ بِاسْمِ مَا يؤول إِلَيْهِ، فَهَذَا جُمْلَةُ الْكَلَامِ فِي هَذَا الْبَابِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: تَمَسَّكَ الشَّافِعِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ فِي بَيَانِ أَنَّ النِّكَاحَ بِغَيْرٍ وَلِيٍّ لَا يَجُوزُ وَبَنَى ذَلِكَ الِاسْتِدْلَالَ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ مَعَ الْأَوْلِيَاءِ، قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ التَّزْوِيجُ إِلَى الْأَوْلِيَاءِ لَا إِلَى النِّسَاءِ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ لِلْمَرْأَةِ أَنْ تَتَزَوَّجَ بِنَفْسِهَا أَوْ تُوَكِّلَ مَنْ يُزَوِّجُهَا لَمَا كَانَ الْوَلِيُّ قَادِرًا عَلَى عَضْلِهَا مِنَ النِّكَاحِ، وَلَوْ لَمْ يَقْدِرِ الْوَلِيُّ عَلَى هَذَا الْعَضَلِ لَمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْعَضْلِ، وَحَيْثُ نَهَاهُ عَنِ الْعَضْلِ كَانَ قَادِرًا عَلَى الْعَضْلِ، وَإِذَا كَانَ الْوَلِيُّ قَادِرًا عَلَى الْعَضْلِ وَجَبَ أَنْ لَا تَكُونَ الْمَرْأَةُ مُتَمَكِّنَةً مِنَ النِّكَاحِ، وَاعْلَمْ أَنَّ هذا
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute