١٥٠] وَكَانَ السَّعْيُ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ مِنْ شَعَائِرِ إِبْرَاهِيمَ عَلَى مَا ذَكَرَ فِي قِصَّةِ بِنَاءِ الْكَعْبَةِ وَسَعْيِ هَاجَرَ بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ فَلَمَّا كَانَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْحُكْمَ عَقِيبَ تِلْكَ الْآيَةِ. وَثَانِيهَا: أَنَّهُ تَعَالَى لَمَّا قال: وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [البقرة: ١٥٥] إِلَى قَوْلِهِ: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ قَالَ: إِنَّ الصَّفا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ وَإِنَّمَا جَعَلَهُمَا كَذَلِكَ لِأَنَّهُمَا مِنْ آثَارِ هَاجَرَ وَإِسْمَاعِيلَ مِمَّا جَرَى عَلَيْهِمَا مِنَ الْبَلْوَى وَاسْتَدَلُّوا بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَنْ صَبَرَ عَلَى الْبَلْوَى لَا بُدَّ وَأَنْ يَصِلَ إِلَى أَعْظَمِ الدَّرَجَاتِ وَأَعْلَى الْمَقَامَاتِ. وَثَالِثُهَا: أَنَّ أَقْسَامَ تَكْلِيفِ اللَّهِ تَعَالَى ثَلَاثَةٌ.
أَحَدُهَا: مَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِحُسْنِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ فَذَكَرَ هَذَا الْقِسْمَ أَوَّلًا وَهُوَ قَوْلُهُ: فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ [الْبَقَرَةِ: ١٥٢] فَإِنَّ كان عَاقِلٍ يَعْلَمُ أَنَّ ذِكْرَ الْمُنْعِمِ بِالْمَدْحِ وَالثَّنَاءِ وَالْمُوَاظَبَةِ عَلَى شُكْرِهِ أَمْرٌ مُسْتَحْسَنٌ فِي الْعُقُولِ. وَثَانِيهَا: مَا يَحْكُمُ الْعَقْلُ بِقُبْحِهِ فِي أَوَّلِ الْأَمْرِ إِلَّا أَنَّهُ بِسَبَبِ وُرُودِ الشَّرْعِ بِهِ يُسَلِّمُ حُسْنَهُ، وَذَلِكَ مِثْلُ إِنْزَالِ الْآلَامِ وَالْفَقْرِ وَالْمِحَنِ فَإِنَّ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقْبَحِ فِي الْعُقُولِ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَا يَنْتَفِعُ بِهِ وَيَتَأَلَّمُ الْعَبْدُ مِنْهُ فَكَانَ ذَلِكَ كَالْمُسْتَقْبَحِ إِلَّا أَنَّ الشَّرْعَ لَمَّا وَرَدَ بِهِ وَبَيَّنَ الْحِكْمَةَ فِيهِ، وَهِيَ الِابْتِلَاءُ وَالِامْتِحَانُ عَلَى مَا قَالَ:
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ [البقرة: ١٥٥] فَحِينَئِذٍ يَعْتَقِدُ الْمُسْلِمُ حُسْنَهُ وَكَوْنَهُ حِكْمَةً وَصَوَابًا.
وَثَالِثُهَا: الْأَمْرُ الَّذِي لَا يُهْتَدَى لَا إِلَى حُسْنِهِ وَلَا إِلَى قُبْحِهِ، بَلْ يَرَاهُ كَالْعَبَثِ الْخَالِي عَنِ الْمَنْفَعَةِ وَالْمَضَرَّةِ وَهُوَ مِثْلُ أَفْعَالِ الْحَجِّ مِنَ السَّعْيِ بَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، فَذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الْقِسْمَ عَقِيبَ الْقِسْمَيْنِ الْأَوَّلِينَ لِيَكُونَ قَدْ نَبَّهَ عَلَى جَمِيعِ أَقْسَامِ تَكَالِيفِهِ وذكراً لِكُلِّهَا عَلَى سَبِيلِ الِاسْتِيفَاءِ وَالِاسْتِقْصَاءِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: اعْلَمْ أَنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ عَلَمَانِ لِلْجَبَلَيْنِ الْمَخْصُوصَيْنِ إِلَّا أَنَّ النَّاسَ تَكَلَّمُوا فِي أَصْلِ اشْتِقَاقِهِمَا قَالَ الْقَفَّالُ رَحِمَهُ اللَّهُ: قِيلَ إِنَّ الصَّفَا وَاحِدٌ وَيُجْمَعُ عَلَى صِفِيِّ وَأَصْفَاءٍ كَمَا يُقَالُ عَصَا وَعِصِيٌّ، وَرَحَا وَأَرْحَاءٌ قَالَ الزاجر:
كَأَنَّ مَتْنَيْهِ مِنَ النَّفِيِّ ... مَوَاقِعُ الطَّيْرِ مِنَ الصِّفِيِّ
وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى جَمْعٍ وَاحِدَتُهُ صَفَاةٌ قَالَ جَرِيرٌ:
إِنَّا إِذَا قَرَعَ الْعَدُوُّ صَفَاتَنَا ... لَاقَوْا لَنَا حَجَرًا أَصَمَّ صَلُودَا
وَفِي كِتَابِ الْخَلِيلِ: الصَّفَا الْحَجَرُ الضَّخْمُ الصُّلْبُ الْأَمْلَسُ، وَإِذَا نَعَتُوا الصَّخْرَةَ قَالُوا: صَفَاةٌ صَفْوَاءُ، وَإِذَا ذَكَّرُوا قَالُوا: صَفَا صَفْوَانُ: فَجَعَلَ الصَّفَا وَالصَّفَاةَ كَأَنَّهُمَا فِي مَعْنًى وَاحِدٍ وَقَالَ الْمُبَرِّدُ الصَّفَا كُلُّ حَجَرٍ لَا يُخَالِطُهُ غَيْرُهُ مِنْ طِينٍ أَوْ تراب متصل به، واشتقاقه من صفا يصفوا إِذَا خَلُصَ وَأَمَّا الْمَرْوَةُ فَقَالَ الْخَلِيلُ: مِنَ الْحِجَارَةِ مَا كَانَ أَبْيَضَ أَمْلَسَ صُلْبًا شَدِيدَ الصلابة، وقاله غير: هو الحجارة الصغيرة يجمع فِي الْقَلِيلِ مَرَوَاتٌ وَفِي الْكَثِيرِ مَرْوٌ قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ:
حَتَّى كَأَنِّي لِلْحَوَادِثِ مَرْوَةٌ ... بِصَفَا الْمَشَاعِرِ كُلَّ يَوْمٍ يَقْرَعُ
وَأَمَّا شَعائِرِ اللَّهِ فَهِيَ أَعْلَامُ طَاعَتِهِ، وَكُلُّ شَيْءٍ جُعِلَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِ طَاعَةِ اللَّهِ فَهُوَ مِنْ شَعَائِرِ/ اللَّهِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ [الْحَجِّ: ٣٦] أَيْ عَلَامَةً لِلْقُرْبَةِ، وَقَالَ: ذلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ [الْحَجِّ: ٣٢] وَشَعَائِرُ الْحَجِّ: مَعَالِمُ نُسُكِهِ وَمِنْهُ الْمَشْعَرُ الْحَرَامُ، وَمِنْهُ إِشْعَارُ السَّنَامِ: وَهُوَ أَنْ يُعَلَّمَ بِالْمُدْيَةِ فَيَكُونُ ذَلِكَ عَلَمًا عَلَى إِحْرَامِ صَاحِبِهَا، وَعَلَى أَنَّهُ قَدْ جَعَلَهُ هَدْيًا لِبَيْتِ اللَّهِ، وَمِنْهُ الشَّعَائِرُ فِي الْحَرْبِ،